مباحث للعقلاء والمفكرين
المبحث الرابع
هل يعقل أن
الله ثلاثة ؟
إعداد
د. القس / سامي منير اسكندر
باحث ومحاضر في الدين المقارن
الفصل السادس
هل الله معلناً في ثلاثة أقانيم؟
v
ما معني كلمة أقنوم؟
في اللاهوت المسيحي نقول أن «الله
واحد في ثلاثة أقانيم». ماذا نعني بكلمة أقنوم،
بالرغم من أننا نستخدمها في لغتنا. فكلمة أقنوم، أصلها من اللغة السريانية، وتعني
"شخصا". فنقول أن الآب أقنوم والابن أقنوم والروح القدس أقنوم. اصطلح معظم المسيحيين في الأجيال الأولي، علي تسمية
هذه التعينات بالأقانيم، والمفرد «أقنوم» أو القنوم» وهي كلمة
سريانية يطلقها السريان علي كل من يتمّيز عن سواه، علي شرط ألا يكون مما شُخص وله
ظل، لذلك فإنه يُراد بالأقنوم «التعين».
خطأ تفسير
كلمة أقنوم أما القول إن كلمة أقنوم معناه «أصل» كما ورد في بعض كتب الفلسفة، فليس بصحيح، فإننا لا نؤمن أن الأقانيم هم
أصول للعالم، بل نؤمن أنهم واحد وهم أصل العالم، لأنهم تعين الله أو الله
معيَّناً. والله دون سواه هو أصل العالم ومبدعه. والقول إن كلمة أقنوم معناها أصل
منقول - كما أعتقد – من قاموس مختار الصحاح ص 553، فقد جاء فيه «الأقانيم الأصول، وواحدها الأقنوم». ومع كلٍ فإن
صاحب المختار نفسه اعترف أنه لم يتحقق من مصدر هذه الكلمة، لأنه ذكر في نفس الصفحة
السابقة: «وأحسبها
رومية»، والواقع
أنها سريانية، والكلمة المقابلة لها في اليونانية هي «إيبوستاسيس = أقنوم»، وقد ترجمت
إلى الإنجليزية «Hypostasis».
فلم يتم استخدام كلمة "شخص"
لأن هذه الكلمة قد توحي لبعض الناس للأشخاص، لجأت الكنيسة إلى كلمة غير عربيّة.
وهذه الكلمة لا تستخدم في أي مجال آخر، ديني أو مدني، غير هذا المجال.
ليس لكلمة
أقنوم مرادف في اللغة العربية أو غيرها من اللغات يؤدى معناها تماماً، لأن كلمة «شخص» العربية وما يرادفها في اللغات الأخرى تدل على الذوات المنفصلة عن غيرها،
والأمر ليس كذلك من جهة كلمة «أقنوم». وقد أشار
إلى هذه الحقيقة «إيليا» مطران نصيبين في القرن الحادي عشر في إحدى رسائله: «ليس في اللغة العربية لفظ يعبر به عن الموجود الذي
كيانه ليس عاماً (أي الذي ليس له شريك في كيانه) أو
ذا عرض (أي الذي ليس له مظهر مادي) ولذلك عبّرنا عنه بالسريانية بكلمة
أقنوم».
ونحن نسلّم بأننا لا نقدر أن نوضح
بالتفصيل كل المقصود في كلمة «أقنوم» ولا حقيقة العلاقة التي بين الأقنوم
والجوهر. وعجزنا هذا غير مقصور على تعليم التثليث لأن معظم ما نعرفه من جميع
الأمور المادية والروحية ليس هو إدراك الجوهر، بل معرفة صفاته وخواصه. ومن باب
أولى يصح هذا القول من جهة اللَّه الذي لا نعرف حقيقة جوهره ولا أسراره الجوهرية
مطلقاً. بل أقصى ما نعرفه هو صفات ذلك الجوهر الذي نسمّيه بالروح المجرد. وقد
اعترض البعض أن التثليث يستلزم انقسام جوهر اللَّه إلى ثلاثة أقسام، وهو باطل،
لأنه ناشئ عن تصوّر جوهر اللَّه أنه مادي وله صفات مادية. وأما الروح فلا يقبل
الانقسام مطلقاً. ولما كان العقل البشري عاجزاً عن إدراك جوهر اللَّه، يبطل حكمنا
باستحالة أنه في ثلاثة أقانيم، لأننا نكون قد حكمنا بمداركنا المحدودة على ما هو
فوق إدراكنا، وما هو خارج دائرة معرفتنا.
فكلمة «الأقانيم» تختلف عن كلمة «الأشخاص» من ناحيتين رئيسيتين:
1) إن الأشخاص هم الذوات المنفصل أحدهم عن
الآخر، أما «الأقانيم» فهم ذات واحدة، هي ذات الله.
2) إن الأشخاص وإن كانوا يشتركون في الطبيعة
الواحدة إلا أنه ليس لأحدهم ذات خصائص أو صفات أو مميزات الآخر. أما الأقانيم فمع
تميّز أحدهم عن الآخر في الأقنومية، هم واحد في الجوهر بكل صفاته وخصائصه
ومميزاته، لأنهم ذات الله الواحد.
v أقانيم
اللاهوت:
هؤلاء الأقانيم متساوون في الجوهر
الإلهي ومتميزون الواحد عن الآخر. ففي التساوي فإن الآب إله، والابن إله والروح
إله. الآب أزلي، قادر على كل شيء، غير محدود وكامل للغاية وكذلك الابن الروح القدس
يشاركان الآب في أزليته وقدرته وعظمته غير المحدودة وفي كل كمالاته بلا تفاوت ولا
نقصان. غير أنهم متميزون الواحد عن الآخر، لأننا لا نستطيع أن نقول أنه "ثلاثة"
إلاّ إذا كان لكل منهم ما يتميز عن الأقنومين الآخرين، وإلا لكانوا حتما أقنوما
واحدا فقط.
فيم يقوم هذا التميّز؟
يأتي التميز في العلاقات المتبادلة
بينهم.
فالأقنوم الأول لا يصدر عن أقنوم آخر،
بل منه يصدر الأقنومان الآخران، ولذلك يسمى «الآب».
والأقنوم الثاني يصدر أو «يولد»
من الآب بطريقة روحية عقلية، كما تصدر أو تولد الكلمة من العقل، لأن الله روح فلا
دَخْلَ فيه للمادة ولشؤون الجسد، ولذلك يسمى الأقنوم«الابن» أو «الكلمة».
والأقنوم الثالث يصدر أو «ينبثق» من
الآب والابن معا هو حبهما المتبادل ويدعى «الروح القدس».
إن في
اللاهوت ثلاثة أقانيم: الآب، والابن، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة إله واحد، جوهر واحد، متساوون
في القدرة والمجد.
v
هل هناك فرق بين الثالوث المسيحي والثالوث في
الوثنيين القدماء؟
جاء التعليم الخاص باللَّه الواحد
المثلث الأقانيم في الإنجيل. وجاء ما يظهر أنه يشبهه من تعاليم الوثنيين القدماء،
ظاهرياً فقط لا حقيقةً.
1- الثالوث
الهندي
في الهند
مثلاً ظهرت إحدى الديانات والتي نادت بثلاثة آلهة هم:
براهما هو الخالق أصل كل شيء، شنوا هو الحافظ لكل شيء شيوا هو المخرب.
براهما هو الخالق أصل كل شيء، شنوا هو الحافظ لكل شيء شيوا هو المخرب.
وهؤلاء
الثلاثة يمثلون التطورات المتلاحقة في الكون من ناحية الوجود والاستمرار والفناء.
وبراهما إله له جوهر إلهي بسيط غير شاعر بنفسه خال من الصفات. فقد كان الهنود
يؤمنون بآلهة كثيرة وصل عددها إلى حوالي 33 إلهاً لكنهّم رفعوا براهما وشنوا وشيوا
فوقهم بحجة أن هؤلاء الثلاثة يمثّلون الخلق والحفظ والتدمير.
فالهنود
لم يقولوا إن الثلاثة (براهما وشنوا وشيوا) هم واحد، بل هم يؤمنون أنهم ثلاثة
منفصلون متعاقبون يعملون ضد بعضهم البعض، لا توجد بينهم وحدة أو كما نسميها نحن
وحدة الجوهر.
ولم
يخطر ببال الهنود قط أن يجعلوا هؤلاء الثلاثة واحداً، بل على العكس تماماً كانوا
يؤمنون أن كلا من هؤلاء الثلاثة منفصل عن الآخر ومختلف عنه كل الاختلاف بل أنهم
يعملون ضد بعضهم. غير أنه بالإضافة لما سبق فإن كل واحد من هذه الآلهة الثلاثة له
أسرار كثيرة وحوادث غرامية مخجلة وكل منهم يطلب نوعاً خاصاً من العبادة فمنهم من
يطلب عبادة مصحوبة بفرح وسرور وابتهاج، ومنهم من يتطلب عبادة مصحوبة برعب وخوف
وإذلال.
2- الثالوث
المصري
كذلك
المصريون القدماء آمنوا بثالوث شهير وهو إيزيس وأوزوريس وحورس ثلاثة آلهة ويطلق
عليه ثالوث طيبة المصري. وكان الشعب المصري القديم يؤمن بهذا الثالوث أيام مصر
الفرعونية وذلك قبل ظهور المسيحية.
قصة الثالوث
المصري القديم أوزيريس وزوجته إيزيس (وهي في نفس الوقت أخته) وابنهما حورس. وقد
كان هناك زمن لم يكن فيه الابن حورس موجوداً مع والديه.
كما أن
الفرق بين الثالوث المسيحي والتثليث المصري كبير وواضح ففي الثالوث المصري توجد
زوجة للإله في حين لا توجد في الثالوث المسيحي. في الثالوث المصري يوجد تعاقب زمني
إيزيس وأوزوريس تزوجا وأنجبا حورس أي أنه لم يكن معهما من البداية بل جاء تالياً
لهما. كما أن في الثالوث المصري زواجاً أو عملية تزاوج بعكس الثالوث المسيحي الذي
لم يحدث فيه أي شيء من هذا القبيل.
ولعلنا
نلاحظ أن تسمية الآب والابن والروح القدس ليس لها أساس في عقائد قدماء المصريين،
كما أن كلمة أقنوم والتي هي من صميم التعليم المسيحي ليس لها أثر في التاريخ
المصري. بل إن الإيمان بالثالوث المصري كان ينص على الانفصال الكامل بين الآلهة
الثلاثة ولا يغيب علينا هنا أيضاً وجود عنصر نسائي في هذا الثالوث.
3- الثالوث البابلي
وفي بابل
وُجدَ ثالوث مكون من عشتاروث، وسن، وشماس. وكان هذا في حوالي القرن الثاني قبل
الميلاد. وهذا الثالوث كان يتكون من أب وأم وإبن. وهذا الأخير أصبح زوجاً للأم في
الوقت نفسه. وهنا أيضاً نرى أن كلَّ إله في هذا الثالوث منفصل تماماً عن الآخر
ومختلف عنه كل الاختلاف. ولذلك فلا يقبل أو يعقل أن تكون عقيدة الثالوث المسيحية
مقتبسة أو مشابهة لعقائد التثليث عند الوثنيين. بل إن الثالوث المسيحي المقدس
يختلف تماماً عن كل ما سبق عرضه.
ونستطيع أن نوضح الفرق بين الثالوث المسيحي والتثليت الوثني
في النقاط التالية:
أولاً: في التثليث الوثني الثلاثة آلهه
غير متساويين لكن في الثالوث المسيحي الأقانيم متساوية في كل شيء. فهي متساوية في
الأزلية والآب يساوي الابن ويساوي الروح القدس.
ثانياً: يوجد تناسل في التثليث الوثني
لكن لا يوجد تناسل في الثالوث المسيحي. فأوزوريس تزوج إيزيس وأنجبا حورس نتيجة
لعملية تزواج.
ثالثاً: يوجد اختلاف في الزمن بين آلهة
الوثن، فمثلاً في التثليث الوثني المصري، كان أوزوريس موجوداً وحده فترة من الزمن
وكانت إيزيس وحدها لفترة من الزمن قبل زواجهما وحورس كان أقل عمراً منهما لكونه
نتاج زواجهما. أما في الثالوث المسيحي فلا يوجد فارق زمني بين الأقانيم الثلاثة
لأن الله موجود منذ الأزل قائم وكائن بذاته وبعقله (الله الابن) وبروحه (الله
الروح القدس).
رابعاً: في التثليث الوثني توجد امرأة،
"ايزيس" في التثليث المصري و"سن" في الثالوث البابلي، أما في
الثالوث المسيحي فلا توجد امرأة ولا تزاوج. فالبنوة في المسيحية ليست جسدية وليست
بنوة تناسلية نتيجة علاقة بين رجل وامرأة وإنما هي بنوة مّختلفة تماماً، هي بنوة
ذاتية عقلية روحانية لا علاقة لها مطلقاً بالجسد أو بالتناسل. فالتوالد يقتضي
التتابع الزمني وهذا لاشك يتنافى مع أزلية الله.
خامساً: في التثليث الوثني الهندي
الثلاثة يعملون الواحد ضد الآخر، لكن في المسيحية الثالوث الواحد يعمل معاً.
فالأقانيم الثلاثة هم واحد في الجوهر لهم علم واحد ومشيئة واحدة وقوة واحدة فليس
في اللاهوت ثلاثة عقول أو ثلاث مشيئات أو ثلاثة مصادر للقوة. فلقد قال المسيح «الْحَقَّ الْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ: لا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلا
مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ(الآب) فَهَذَا يَعْمَلُهُ
الابْنُ كَذَلِكَ»([1]).
وكل
هذه الآراء الوثنية القديمة
مختلفة تماماً عن تعليم الإنجيل في التثليث، وهي لا تفسره ولا تؤيده. واللَّه واحد
مثلث الأقانيم، أما ثالوث الوثنيين فهو ثلاثة آلهة.
يـؤمن
المسيحيون باللَّه الواحد، الموجود بذاته، الناطق بكلمته، الحي بروحه، موجودّ بذاته
(وهذا ما يطلقون عليه الآب) فلا يمكن أن الذي أوجد الموجودات كلها يكون بلا وجود
ذاتي. وكلمة «أب» لا تعني التوالد التناسلي، بل تعني الأبوَّة الروحية
كقولك إن إبراهيم هو أب المؤمنين..وهو ناطق بكلمته، ويطلقون عليه «الابن»
و«الكلمة». فلا يمكن أن يكون اللَّه الذي خلق الإنسان ناطقًا يكون هو نفسه
غير ناطق. وتلقيب المسيح بالكلمة جاء من الكلمة اليونانية «لوجوس» وتعني
العقل. فاللَّه خلق العالم بكلمته وعقله. واللَّه وعقله واحد، كما تقول «حللتُ
المسألة بعقلي» وأنت وعقلك واحد. عقلك «يلد» فكرة تنفصل عنه وتُنشر في
كتاب، وفي الوقت نفسه تكون الفكرة موجودة في عقلك. واللَّه ناطق بالمسيح «كلمته»،
الذي هو ابنه (كقولك: الكلمة ابنة العقل، وفي تعبيرنا العربي: لم ينطق ببنت شفة).
فالكلمة في العقل، ومع ذلك يرسل العقل الكلمة لتنتشر وتهدي الناس، وهي في الوقت
نفسه موجودة في العقل والعقل فيها..وهو حي بروحه، ويُطلقون على ذلك «الروح
القدس» فلا يمكن أن اللَّه الذي خلق الحياة يكون هو نفسه غير حي بروحه.
واللَّه وروحه واحد. فالمسيحيون يؤمنون باللَّه الواحد، الموجود بذاته،
الناطق بكلمته، الحي بروحه.
عـقيدة
الثالوث لا تعني مطلقاً أننا نؤمن بثلاثة ألهة كما يتوهم البعض، لكن عقيدتنا بحسب
الإنجيل هي:
الله الواحد:
له قلب محب هو الأب،
وعقل حكيم هو الابن، وروح حي هو الروح القدس. ومثل لذلك الإنسان نفسه: له قلب
يحب وهو الجسد، وعقل يفكر هو النفس، وروح به يحيا هو الروح. وهؤلاء
الثلاثة هم في الإنسان الواحد، لايمكن أن نتصور إنسان بدون قلب، أو عقل، أو روح.
لا نستطيع أن نقول أن الإنسان ثلاثة وليس واحد. هكذا الأمر بخصوص الله ذاته، فهو
ذو قلب محب هو الآب، وعقل حكيم هو الكلمة (الابن)، وروح حياة هو الروح القدس.
ثانياً: التثليث في
الإنجيل:
ملخصه أنه لا يوجد إلا إله واحد فقط
(كما شرحنا سابقاً)، ومع ذلك فإن لكل من
الآب
والابن
الروح القدس
صفات اللاهوت وحقوقه. وبالتفصيل نقول:
(1) إنه لا إله إلا الإله الوحيد
السرمدي الحقيقي. ومن نصوص الكتاب التي تؤكد على وحدانية اللَّه
«اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌ
وَاحِد»([2]).
«هَكَذَا
يَقُولُ الرَّبُّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَفَادِيهِ رَبُّ الْجُنُودِ: «أَنَا
الأَّوَلُ وَأَنَا الآخِرُ وَلا إِلَهَ غَيْرِي»([3]).
وقال المسيح إن أعظم الوصايا هي «الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌ وَاحِدٌ»([4]).
«أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. حَسَناً تَفْعَلُ»([5]). ومن وصايا اللَّه
العشر التي تتضمن خلاصة الناموس الأخلاقي للدينين اليهودي والمسيحي الوصية الأولى
والعظمى منها: «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي».
وكل
تعليم يضاد ذلك خاطئ.
(2) لكلٍّ من الآب والابن والروح
القدس ما للآخر من الألقاب والصفات الإلهية (إلا ما كان خاصاً بالأقنومية) ويستحق
كلٌّ منهم العبادة الإلهية والمحبة والإكرام والثقة. فيتضح من الكتاب المقدس لاهوت
الآب كما يتضح لاهوت الابن، ويتضح لاهوت الروح القدس كما يتضح لاهوت الآب والابن.
(3) ليست أسماء أقانيم الثالوث الأقدس
(الآب والابن والروح القدس) أوصافاً لعـلاقات مختلفة بين اللَّه وخلائقه، على ما
زعم البعض ككلمة «خالق» و«حافظ»
و«منعم».
ومن
إعلانات الإنجيل التي تثبت ذلك:
(أ) يقول
كلٌّ من الآب والابن والروح القدس عن نفسه: «أنا».
(ب) يقول
كلٌّ منهم للآخر: «أنت» ويتحدث
عنه بضمير الغائب «هو».
(ج) يحب الآب الابن،
والابن يحب الآب، والروح القدس يشهد للابن. فيظهر من ذلك أن بين كل منهم
والآخر من العلاقات ما يدل على تمييز الأقنومية، وأنه يوجد إلهٌ واحد فقط في ثلاثة
أقانيم، وهم الآب والابن والروح القدس.
ثالثًا: تعليم التوحيد والتثليث معا
يتضمنً ما يأتي:
(1)
وحدانية اللَّه.
(2) لاهوت الآب والابن والروح
القدس.
(3) الآب والابن والروح القدس أقانيم
يتميز كل منهم عن الآخر منذ الأزل وإلى الأبد.
(4) إنهم واحدٌ في الجوهر، متساوون في
القدرة والمجد.
(5) بين أقـانيم الثالوث الأقدس تميُّز
أيضاً في الوظائف والعمل، لأن الإنجيل يعلّم أن الآب يرسل الابن، وأن الآب والابن
يرسلان الروح القدس. ولم يُذكر أن الابن يرسل الآب ولا أن الروح القدس يرسل الآب
أو الابن، مع أن الآب والابن والروح القدس واحدٌ في الجوهر ومتساوون في القدرة
والمجد.
(6) تُنسب بعض أعمال اللاهوت إلى الآب
والابن والروح القدس معاً، مثل خلق العالم وحفظه.
(7) تُنسب بعض الأعمال على الخصوص إلى
الآب، وغيرها إلى الابن، وأخرى إلى الروح القدس. مثال ذلك ما قيل إن الآب يختار
ويدعو، وإن الابن يفدي، وإن الروح يجدد ويقدس([6]).
(8) تُنسب بعض الخواص إلى أقنوم من
الثالوث دون الآخرين، كالأبوّة إلى الآب، والبنوّة إلى الابن، والانبثاق إلى
الروح.
قد يكون هـذا التعليم فوق إدراكنا، ذلك
لا ينفيه، كما لا ينفي ما يشبهه من الحقائق العلمية والدينية. وإن قيل إن جوهراً
واحداً ذا ثلاثة أقانيم مُحال، قلنا: هاتوا برهانكم على هذا! وإن عقولنا القاصرة
لم تُخلق مقياساً للممكن وغير الممكن لِما هو فوق إدراكها. وحسناً قيل: «البحث
في ذات اللَّه كفر».
وقال
علي بن أبي طالب: «القول بأن اللَّه واحد على أربعة
أمور. وجهان لا يجوزان على اللَّه، ووجهان ثابتان له:
(1) فمن قال إن
اللَّه واحد وقصد باب العدد، فهذا غير جائز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب
العدد.
(2) ومن قال إن اللَّه واحد وأراد النوع
أو الجنس فقوله باطل، لأن اللَّه منزَّه عن كل نوع وجنس.
إنما الوجهان الصحيحان فهما:
(1)
القول بأن اللَّه
واحد أحد منفرد عن الأشياء منزَّه عنها.
(2) وبأنه لا ينقسم في وجود أو عقل أو
وهم. فكذلك اللَّه ربنا».
ونحن لا نعتقد أن اللَّه ثلاثة أقانيم
بمعنى أنه ثلاثة جواهر، لأن كلمة «أقنوم» لا تعني جوهر. فالمقصود هنا
بالجوهر الذات الواحدة، فهو عبارة عن الوحدة اللاهوتية. والمقصود بالأقنوم واحدٌ
من الآب والابن الروح القدس، فهو عبارة عن الامتياز في ذلك الجوهر الواحد. لكن
كلمة الأقنوم (كسائر الكلمات البشرية) قاصرة عن إيضاح تلك الحقيقة الإلهية، أي أن
اللَّه ثالوث في الأقنومية وواحد في الجوهر.
فليس لكلمة «أقنوم» في اللغة
البشرية معنى كمعناها الخاص في التعبير عن الثالوث الأقدس، لأن المقصود بتلك
الكلمة في غير الكلام على التثليث شخص متحيز بحيّز، منفرد عن غيره كيوحنا مثلاً.
والمقصود بها في الكلام عن الثالوث غير ذلك التعيين، أو استقلال الأقنوم عن
الجوهر.
فأقانيم الثالوث هي واحدٌ في الجوهر، أي
له ذات واحدة كقول القانون الأثناسي: «هكذا الآب إلهٌ، والابن إلهٌ، والروح
القدس إلهٌ. ولكنهم ليسوا ثلاثة آلهة بل إله واحدٌ. وهـكذا الآب رب، والابن رب،
والروح القدس رب، ولكنهم ليسوا ثلاثة أرباب بل رب واحد». فإذا قلنا ثلاثة
أقانيم بشرية أشرنا إلى ثلاثة أفراد معيَّنين في وحدة نوعية، أي إلى ثلاثة أشخاص
من البشر لهم طبيعة واحدة نوعية.
ولكن إذا قلنا ثلاثة أقانيم إلهية أشرنا
بذلك إلى اتحاد جوهري، أي إلى ثلاثة في طبيعة واحدة لا نوعية بل جوهرية، أي في
الذات الواحدة. فأقانيم اللاهوت هي في جوهرٍ واحدٍ فردٍ، لا في جوهرٍ واحد نوعي.
فالتعدد الأقنومي في اللاهوت لا يلحق الجوهر، بخلاف التعدد الأقنومي في البشر،
لأنه في البشر يقوم بتعدد الجوهر والأقنوم معاً. فكل من الآب والابن والروح القدس
هو باعتبار أقنومه في الذات الواحدة، ولكلٍ منهم جوهر اللاهوت الواحد بلا انقسام
ولا انفصال.
مما سبق يتضح أنه لابد من أن يكون هناك
ثالوث في الله الواحد القدوس إذ أنه: لا يمكن أن الله
الواحد الذي أوجد في الإنسان عاطفة الحب، أن يكون هو نفسه بلا قلب محب. ولا يمكن
أن الله الذي خلق الإتسان عاقلاً ناطقًا، أن يكون هو نفسه بلا
عقل حكيم.
كما أنه لا يمكن أن الله الذي خلق
الحياة في كل كائن حي، أن يكون هو نفسه بلا روح حي. لذلك تحتم أن يكون «الله
الواحد» ثلاثة أقانيم على نحو ما أوضحنا وهذا هو إيماننًا القويم والصحيح
(الصراط المستقيم) «الله واحد في ثلاثة أقانيم وليس ثلاثة آلهة».
مما سبق عرفنا أن المسيحية تؤمن بأله
واحد في ثالوث: قلب الله المحب، كلمته العاقلة الحكيمة، وروحه الحي. ويطلق على هذا
الثالوث أسماء أخرى هي: الآب هو قلب الله كأب محب، الابن هو كلمة الله العاقلة
الحكيمة، الروح القدس هو روح الله الحي. وتقوم في وجه التسمية اعتراضات من غير الفاهمين،
إذ يظنون أنها تعني التوالد التناسلي والعلاقات الجسدية، وحاشا للمسيحية من هذا
المفهوم، ولذلك سنوضح القصد من هذه التسمية فيما يلي:
أولاً: الله الآب:
مفهوم كلمة الآب :
إننا نحن المسيحيين لا نقصد بهذا اللفظ
المعني الجسدي، بل لهذا اللفظ "آب" معان أخرى كثيرة منها:
1- المعني المجازي:
فالله هو مصدر كل الكائنات وخالقها
فيسمي أبًا للمخلوقات جميعها لاسيما العاقلة، كما يقول النبي موسى: «أَليْسَ هُوَ أَبَاكَ وَمُقْتَنِيَكَ
هُوَ عَمِلكَ وَأَنْشَأَكَ؟»([7]). أو كما
قال النبي إشعياء: «يَا رَبُّ أَنْتَ أَبُونَا»([8]). وفي
العهد الجديد، أعلن الرسول بولس: «لَنَا إِلَهٌ وَاحِدٌ: الآبُ الَّذِي مِنْهُ
جَمِيعُ الأَشْيَاءِ وَنَحْنُ لَهُ»([9])، وبهذا
المعني، ترد لفظة (الآب) في اللغة مثل أبو الخير، أبو البركات، وأبو
الفضل...وغيرها، حيث لا يؤخذ بمعني التوالد أو التناسل الجسدي، بل بالمعني
المجازي.
2- المعني الشرعي:
ففي حالة التبني، لا تعني لفظة «الآب»
أنه قد أنجب الابن المتبني، بل أنه قبله
في محل الأبن، ومنحه كامل الحقوق الشرعية. واعتبر نفسه مسؤولاً عنه، ملتزمًا به
كأب حقيقي. ويقول الرسول بولس في هذا: «أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي
بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا الآبُ!».([10]). أو «لِنَنَالَ
التَّبَنِّيَ»([11]). فأبوة
الله لبنوتنا على حقوق شرعية إلهية.
3- المعني الجوهري:
كعـلاقة النار والنور، فالنار تلد النور
الذي هو من طبيعتها ذاتها. ولهذا نقول في قانون الإيمان المسيحي عن الكلمة «نور
من نور». ونقول أيضًا «واحد مع الآب في الجوهر». وهذا نفس ما قرره
الكتاب المقدس بقوله: أنه «بَهَاءُ مَجْدِهِ،
وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ»([12]).
وبهذا المعني ينتفي ما يتهمنا به البعض بأن هناك علاقة جسدي أو مادية في تعبيرنا
عن الآب والابن، وإنما هي علاقة روحية جوهرية.
4-المعني الروحي:
بعد أن سكب الله روحه القدوس في قلوب المؤمنين، ولدوا ثانية بالمعمودية
ولادة روحية، متجددين بفعل الروح الإلهي القدوس، وبهذا يتم في المؤمنين القول أنهم
مولودين من الله: «اَلَّذِينَ وُلِدُوا
لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلا مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلا مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ
مِنَ اللَّهِ»([13]).
وقد علمنا يسوع المسيح أن نصلي قائلين: «فَصَلُّوا
أَنْتُمْ هَكَذَا: أَبَانَا ﭐلَّذِي فِي ﭐلسَّمَاوَاتِ لِيَتَقَدَّسِ ﭐسْمُكَ»([14]).
وبناء عليه لا يحق لأي إنسان عادي أن يدعي بأنه ابن الله، وأن الله أبوه، ما
لم يحصل على التبني الشرعي ومسحة الروح القدس. مما
سبق إيضاحه إذن لا نؤمن بأبوة الله بطريقة جسدية، بل بطريقة روحية مقدسة.
ثانيًا: الابن:
مفهوم كلمة ابن
وهنا
لابد أن نوضح أن صلة المسيح "الإبن" بالله "الآب" ليست صلة
توالدية تناسلية جسدية ولكنها علاقة روحية تقوم على وحدة الطبيعة والصفات والإرادة
وتحتوي على المحبة والإكرام والمناجاة المتبادلة بين الآب والابن. أو مانسميه
بلغتنا البشرية حوار الذات مع ذاتها أو نفسها.
وإن
استخدام الإنجيل لكلمتي
الآب والابن ما هي إلا ليشرح لنا بصورة مبسطة يستطيع عقلنا البشري أن يدرك بها
العلاقة بين الله الآب وبين كلمته الأزلية. فهي ليست علاقة تزاوج وتناسل وتكاثر
كما يظن البعض.
فالبنوة بمعناها الحقيقي في الكتاب المقدس تشير بوضوح أن الآب والابن متلازمان أزليان ومتحدان معاً بالروح القدس، فليس هناك علاقة توالدية جسدية أو محدودية في الزمن.
فالبنوة بمعناها الحقيقي في الكتاب المقدس تشير بوضوح أن الآب والابن متلازمان أزليان ومتحدان معاً بالروح القدس، فليس هناك علاقة توالدية جسدية أو محدودية في الزمن.
في قولنا المسيح ابن الله لا نقصد أن
المسيح جاء عن طريق تزاوج جسدي. فقولنا «ابن» لا نقصد بها العلاقة الجسدية
أو الولادة التناسلية...وإنما نقول المسيح ابن الله أي أنه جاء من عند الله، فالله
هو روح، اذا تنبع بنوة المسيح من أبوة الله الروحية.
ومع أن هذه البنوة ليست مجازية إلا أن اللغة العربية قد استخدمت كلمة «ابـن»
فـي اللغة العربية والقرآن والحديث بهذا المعني وليس للدلالة على التوالد التناسلي
كما يتضح مما يلي:
1- كلمة ابن في اللغة:
في كثير من التعبيرات اللغوية تستخدم
كلمة ابن لا للدلالة على التوالد التناسلي كقولنا عن الطلبة «أبناء العلم»، وعن
المواطنين «أبناء الوطن» وعن المصري «ابن النيل» وعن الأعرابي «ابن
البادية»...عن الكلمة التي
يتكلم بها الإنسان «بنت شفه» فنقول مثلا: «لم ينطق الرجل ببنت شفه»،أي
أن الرجل لم ينطق « بكلمة».
2- كلمة ابن في القرآن:
جاءت في القرآن كلمة «ابن» لا
لتفيد التوالد التناسلي كما يتضح لك مما يلي:« قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ
خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ» ويقول المفسرون كلمة «ابن السبيل» تشير إلى المسافر، وقال
الإمام النسفي والشيخ حسنين مخلوف «دعي ابن السبيل لملازمنه للطريق»([15]).
v حديث
قدسي:
جـاء في حديث قدسي «الأغنياء وكلائي
والفقراء عيالي» أي أولادي، فهل يفهم من هذا أن الله أخذا زوجة وأنجب منها
أولادًا هم الفقراء؟ إذا فكلمة «ابن الله» لا تفيد التوالد التناسلي
بالطريق البشرية، وإنما قصد بهذا القول تعريف علاقة المسيح
إلى
الله، وليس في ذلك كفر ولا إشراك! لأن بنوة المسيح تنبع من أبوة الله الروحية.
فالله الموجود هو الآب، وكلمته المسيح هو الابن على الإطلاق، وبالمعني الوحيد الذي
لا ينطبق على غيره.
v
شهادة القرآن أن
المسيح كلمة الله:
يشهد القرآن بكل وضوح أن المسيح هو كلمة
الله ويتضح ذلك مما يلي:
«إِنَّمَا
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ»([16])،
«أَنَّ
اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى([17])
مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ»([18]). وقد
فسر الإمام أبو السعود ذلك بقوله: «مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ
اللَّهِ». أي بعيسى عليه السلام...إذ قيل إنه أول من آمن به وصدق بأنه كلمة
الله وروح منه.
وقال السدي: لقيت أم يحيى أم عيسى
فقالت: يا مريم أشعرت بحبلى، فقالت مريم وأنا أيضًا حبلى، قالت (أم يحيى) إني وجدت
ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالي: «مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ
مِنْ اللَّهِ»([19]).
«إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ
يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ»([20]).
ولعلك تلاحظ إشارته إلى الكلمة بضمير مذكر في قوله «بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ»
ولم يقل «بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُا» أليس في ذلك دلالة
واضحة على أنه لا يقصد بها مجرد كلمة عادية بل إن كلمة الله لا تنفصل عنه قد تجلت
في جسد المسيح وهذا ما يؤكده أحد علماء المسلمين وهو: الشيخ محي الدين العربي إذ
قال: الكلمة هي الله متجليًا...وهي عين الذات الإلهية لا غيرها([21]).
وقال أيضًا "الكلمة هي اللاهوت"([22]).
أليس هذا هو عين ما قيل عن السيد المسيح
في إنجيل يوحنا «فِي الْبَدْءِ كَانَ
الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ.
وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا»([23]).
ولاحظ
أيضًا الإشارة إلى الكلمة بضمير المذكر في القول «كَانَ
الْكَلِمَةُ» ولم يقل كانت الكلمة ويفسر ذلك بقوله
«كَانَ الْكَلِمَةُ»
وقد
ظهر في الجسد «وَالْكَلِمَةُ صَارَ
جَسَداً».
شهادة الدكتور محمد الشقنقيري أستاذ
الشريعة الإسلامية في جامعة باريس، ثم أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق
جامعة عين شمس([24])
إذ يقول: «نعرف أن القرآن يقول عن يسوع أنه كلمة الله وروحه، (كلمة الله، وروح الله)
وترجمة هذه التسمية لا تنال المسيحي بأية صعوبة، ومن ثم كان الاعتراض على
المسلمين، لاضطرارهم إلى الاعتراف بألوهية المسيح. ما المسيح؟ يجيب المسلم إنه كلمة الله، أنه روح الله.
ولكن هذا الكلمة وهذا الروح أمخلوقة؟ أم غير مخلوقة؟
إذا كان روح الله غير مخلوق فلا إشكال: فالمسيح إذن هو الله. وإذا كان روح الله
مخلوقًا، فيكون روح الله وكلمة الله مخلوقين. فالله إذا كان قبل الخلق بغير كلمة!
وبغير روح! وذلك غير متصور!!».
ثالثًا: الروح القدس:
قـد مـر بنا الحديث عن الروح القدس أنه
روح الله وقد ورد ذكره في مواضع كثيرة منها: «وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ
اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ»([25]).
«وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ»([26]). وقال
الإمام النسفي: « بروح القدس أي الروح المقدسة...أو بأسم الله الأعظم»([27]). «اذْكُرْ
نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ»([28]). وقال
السيد عبد الكريم الجيلي عن الروح القدس أنه غير مخلوق وغير المخلوق أزلي
والأزلي هو الله دون سواه([29]).
وقال أيضًا الشيخ محمد الحريري
البيومي: روح القدس هو روح الله وروح الله غير مخلوق([30]).
هذا هو الثالوث الأقدس في الله الواحد الذي نؤمن به وهذا هو سر تسميته بالآب
والابن والروح القدس. فالآب لقب الله في محبته الذي أوجد الخليقة فهو آب لكل
الخليقة. الابن لقب كلمة الله المتجسّد في الجسد. والروح القدس هو روح الله
القدوس.
v شهادة
القرآن للثالوث المسيحي:
ربما تتعجب أن القرآن يذكر ثالوث الله
تمامًا كما تؤمن به المسيحية. فقد مر بنا إيمان المسيحية بأن
الله
كائن
محب
هو
الآب،
وناطق
هو
الابن، وله روح هو الروح القدس. وهذا هو عين ما ذكره القرآن وفي آية واحدة: «إِنَّمَا
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ»([31]).
ففي هذه الآية يتضح أن الله له:
1- الله
كائن موجود: في
قوله: «رَسُولُ اللَّهِ».
2-
الله ناطق بكلمته:
في قوله: «وَكَلِمَتُهُ» فالهاء ضمير متصل مفرد غائب يعود على الله.
3- الله
له روح: «وَرُوحٌ مِنْهُ» فالهاء في «مِنْهُ» ضمير متصل مفرد غائب
يعود على الله. وهذا هو عين إيماننًا المسيحي المعلن بواسطة الوحي المقدسة في
الإنجيل.
ما هي ضرورة حتمية الإيمان
بالثالوث المقدس؟
من الضروري والهام جداً أن نؤمن
بعقيدة الثالوث القدوس لهذه الأسباب:
1. لأن الله محبة، هو المحبة في
أعلى صورها، وهذه المحبة تعود إلى كينونته فهو يمارس الحب منذ الأزل وإلى الأبد،
ولا يمكن أن تكون هذه الصفة قد أضيفت إليه في وقت من الأوقات، وإلا فإنه يكون قد
تغير– وحاشا لله أن يتغير- ولابد لكي يمارس أحد الحب أن يكون هناك محبوب، ولذا
فالسؤال هو يا ترى من الذي كان يحبه الله قبل خلق الإنسان والعالم والخليقة؟ هل
يوجد أزلي آخر غير الله، حاشا؟ ولذا لابد أن يكون هذا الحب موجها إلى أقنوم آخر في
جوهره الواحد، ولذا نستطيع أن نقول أن الله مكتفي بذاته من خلال أقانيمه فأقنوم
الآب يحب اقنوم الإبن والإبن محبوب من الآب وهكذا...
2. نستطيع أن نكتشف بدقه أن
الله خلق آدم على صورته ومثاله، ونحن نرى آدم إنساناً يحيا حياة الشركة مع الآخر،
وقد استمد آدم هذه القدرة من الله، فكيف يهب الشيء من لا يملكه؟ وعليه لابد أن
يكون لله نفس القدرة وإلا فإن آدم يكون قد أكتسب شيئاً غير موجوداً في كمالات الله
– وحاشا لله أن يكون ناقصاً - ولا يمكن أن
يكون الله مشاركاً إلا من خلال الأقانيم فهي مكتفية بذاتها كل منها يقدم ذاته
بالكلية للأقنومين الآخرين في جوهر الله الواحد، ولا تحتاج لآخر من خارج الجوهر
الإلهي، ومن يرفض الأقانيم
لابد أن يقر بأن الله كان بحاجة للبشر أو العالم لكي يشاركهم محبته أو شركته –
وحاشا لله أن يكون بحاجة لآخر.
3. لأن عقيدة التجسد والكفارة
تعتمدان بصورة أساسية على الثالوث، فنحن نؤمن بأن الكلمة - أقنوم الابن - صار جسداً([32])،
لأننا ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا([33])،
وتفقد هاتان العقيدتان قوتهما لو لم يكن الفادي هو الله ذاته لأسباب نذكرها حينما
نتحدث عن ضرورة الفداء.
4. لأن الكتاب المقدس، الموحى
به من الله يؤكد على هذه العقيدة بقوة من خلال عهديه القديم والجديد وسنذكر ذلك
بالتفصيل..
ولهذه الأسباب ينبغي لنا أن
نؤمن بأن الله واحد في جوهره مثلث في أقانيمه.
إنّ إيمانناً بالثالوث الأقدس هو أحد المبادئ الأساسية
للإيمان المسيحي. الله جوهر واحد غير
مُقسّم ومُعلن لنا في ثلاثة أقانيم (أشخاص) متميّزين: الله الآب، كلمته (الله
الإبن)، وروحه (الله الروح القدس). بسبب وحدة الجوهر أو الذات الغير
مُقسّم، تُوجد إرادة واحدة فقط في الثالوث الأقدس لأشخاص اللاهوت
الثلاثة. هذا يعني أنّ لا أحد من أشخاص اللاهوت الثلاثة يعمل بشكل مستقل من
الشخصين الآخرين. هناك إلتقاء والتصاق متبادل دائما (يوحنا 5: 19؛ 10: 30). في
الثالوث الأقدس، الآب هو المصدر الوحيد - الوجود الأول الذي ليس له أصل للإبن،
وللروح القدس. إنّ أشخاص الثالوث الأقدس الثلاثة متّحدون في جوهر اللاهوت بدون
وساطة أو مسافة. كلّ شخص إلهي يُقيم في الآخرين بدون إمتزاج وبدون إختلاط. في أيّ
من أشخاص الثالوث الأقدس، الشخصين الآخرين مرئيان ومُعلنان بشكل مستمر، لأن
الإنجاب والإنبثاق هي أفعال داخلية في اللاهوت المطلق اللانهائي. كلّ شخص إلهي في
الثالوث الأقدس يحتوي الآخرين؛ ويمتلك ليس ثلث الألوهية، بل كلها. رغم ذلك، كلّ
شخص في الثالوث الأقدس متميّز شخصياً. قوانين علم الرياضة المحدودة لا تنطبق على
الله الذي هو أعلى منها. الله ثلاثة في واحد، وغير قابل للإنقسام. إنّ أقانيم
الثالوث الأقدس الثلاثة متميزون، لكنّهم داخليون في وحدتهم ككائن لا يعرف أي تفريق
لدرجة أنّه من المستحيل فصلهم لثلاث كيانات بينها عدم إستمرار. إنّ جوهر اللاهوت
الموجود بذاته غير مُقسّم لأشخاص منفصلين.
وحدة الله ليست وحدة
أجزاء مفصولة، لكنها وحدة أجزاء مُتميّزة. هكذا، طاقات
اللاهوت بأكمله تُعلن للمؤمن المسيحي أحيانا في الأب، وأحيانا أخرى في الإبن وفي
الروح القدس.
إنّ أقانيم الثالوث الأقدس الثلاثة من نفس الجوهرالإلهي؛
ولهم، في طبيعتهم الإلهية، نفس الخواص بالنسبة للإرادة، والطاقة، والقوّة،
والسلطان. إنّ التمييز بينهم مؤسس على خواصهم الأقنومية التي تتعلق بمصدرهم. الأب
هو المصدر الوحيد في الثالوث الأقدس الذي ليس له مصدر ويتميز بالأبوّة. الإبن
يتميز بأنه إبن الآب المولود/المُنجب منه. الروح القدس يتميز بأنه مُنبثق من الآب
والأبن. الترتيب المذكور في الكتاب المقدّس للآب والإبن والروح القدس كالأشخاص
الأول، والثاني، والثالث في الثالوث الأقدس لا يدلّ على أيّ رتبة، تفوق، أو تبعية
لهم في الثالوث الأقدس لأنهم جميعا متساويين في اللاهوت وكائنين منذ الأزل إلى
الأبد. هذا الترتيب يقترح فقط علاقة الأب كمصدر الإبن والروح القدس. في العملية
الإلهية الواحدة، كلّ شخص إلهي في الثالوث الأقدس يساهم بما هو ملائم به: الأب هو
خالق الكلّ؛ الإبن هو الذي به خُلِقت كلّ الأشياء وبه تم الفداء؛ الروح القدس هو
مُعطي الحياة ومصدر التقديس.
إنّ أقانيم الثالوث الأقدس داخليون في بعضهم، ولذلك لا
يحصلون على شيء من الخارج، لكنّهم متميزين في شخصياتهم، ويجدوا أنفسهم في حركة
دائمة وحياة شركة محبّة وكينونة. تُقوّي هذه المشاركة الشخصية الكليّة الطابع
الشخصي لله إلى الدرجة الأعظم. إنّ الوحدة الكاملة لأقانيم الثالوث الأقدس مؤسسة
على الحبّ الإلهي المثالي الذي يتميّز بإنكار الذات التامّ. لا توجد أنانية في هذه
الوحدة. الروح القدس، الأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس، هو المعزي الذي يؤسّس
حياة شركتنا مع الله. من خلال الروح القدس، يسكن الله في المؤمن المسيحي. يقدّس
الروح القدس تدريجيا المؤمن المسيحي في المسيح. خلال الروح القدس، يشارك المؤمن
المسيحي في طاقات الله. نستطيع القول أنّ الروح القدس هو الله فينا، الإبن هو الله
معنا، والآب هو الله الأعلى منّا.
من المهم تأكيد حقيقة
أنّ الإله الذي هو شخص وحيد منحصر في ذاته لا يستطيع إختبار ملء حياة الشركة
والحبّ التي يعيشها الإله المثلث الأقانيم في الثالوث الأقدّس. لذلك الإله الوحيد
الشخص هو إله ناقص لأنه لا يستطيع أن يختبر ملء الوجود. الله القدير كامل في ذاته
الإلهية في كلّ شيء. لذلك لديه إكتفاء ذاتي في داخله، ولا يحتاج إلى خليقته ليختبر
حياة شركة المحبة معها. الخليقة لا تضيف أيّ شيء لوجوده وكينونته. الله لم يخلق
العالم لإشباع حاجة ضرورية لديه. الثالوث الأقدس ليس له إحتياج لآخر حيث يصبّ
ويسكب محبّته العظيمة، لأن الآخر هو في الثالوث الأقدس. الله المُكتفي ذاتيا لا يعتمد
على أيّ وجود غير إلهي خارج ذاته. لذلك، الإله الحقيقي الحيّ للكون لا يمكن أن
يكون إله وحيد الشخص. النقص الآخر في الإله الوحيد الشخص أنّه يفتقر إلى وسائل
المشاركة العميقة القريبة الوثيقة مع خليقته. لا يمكن أن تتم هذه المشاركة بواسطة
ملاك يُرسله اللّه، لأن الملاك هو مخلوق محلي ومحدود يستطيع أن يتّصل خارجيا فقط
بشخص واحد في وقت ما. كما أن الملاك لا يستطيع أن يُؤثر في قلب الإنسان من الداخل
لكي يعطيه إضاءة إلهية داخلية. على عكس ذلك، الروح القدس الغير مخلوق للإله الحيّ
غير محدود وغير محصور في مكان معين. الروح القدس يضيء بانور اللإلهي في الأعماق
الداخلية لقلوب كثير من المسيحيين في نفس الوقت. يسكن الله بروحه القدوس (الأقنوم
الثالث في الثالوث الأقدس) في خليقته البشرية المؤمنة. هو إله عظيم جدا يحكم
الكون، وهو إله يهتمّ بالبشر لدرجة أنه يحيى حياة بشرية كاملة في المسيح يسوع، وهو
إله مُحب وودود لدرجة أنه يعيش في كلّ مؤمن مسيحي.
[24] ونشرة بجريدة الأهرام بتاريخ 26/ 5/ 1985 مترجمة
عن المجلة التاريخية للقانون الفرنسي والأجنبي في شهر يونيو 1981، وقام بالترجمة
الدكتور محمد بدر أستاذ تاريخ القانون في كلية الحقوق جامعة عين شمس.
0 التعليقات:
إرسال تعليق