مباحث للعقلاء والمفكرين
المبحث الرابع
هل يعقل أن الله ثلاثة؟
إعداد
د. القس / سامي منير اسكندر
باحث ومحاضر في الدين المقارن
أخيراً:
فكر الإسلام والثالوث
أولاً: بنوة المسيح في القرآن:
يرى
المتأمِّل في شخص المسيح، من خلال القرآن، أنّ موضوع بَنوّيته يثير
جدليّة القرآن وفيه خمس نظريّات لتكفير القول «بالبنوة لله»، فهل
المسيحية منها براء؟
1 -
النظريـة الأولى:
الأخذ من
خلقـه: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِداً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ
وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَذّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ
وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْداً﴾ ([1]).﴿وَقَالُوا
اتَّخَذَ اللَّهِ وَلَداً﴾ ([2]).﴿ذلك
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قولَ الحـقِ الذي فِيه يمترون. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَـانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
([3]).
قال
البيضاوي في تفسير البقرة2: 117 ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهِ وَلَداً -
نزلت لما قالت اليهود: عزير ابن الله، والنصارى: المسيح ابن الله، ومشركو الـعرب:
الملائكة بنات الله…سبحانه
تنـزيه له عن ذلك فإنه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء. بل له ما في السماوات
والأرض﴾ رد لما قالوه واستدلال على فساده.
جاء في كتاب
التفسير الكبير للفخر الرازيّ: «اعلم أنّه تعالى لمّا ردّ على عبدة الأوثان عاد إلى
الردّ على من أثبت له ولد. (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن
الله) وقالت العرب الملائكة بنات الله. والكلّ داخلون في هذه الآية».
والمعنى أنه
تـعالى ﴿خالق ما في السموات والأرض﴾. ثم يُعّقب بقول القرآن ﴿كل له
قـانتون، أي منقـادون لا يمتنعون على مشيئته وتكوينـه. وكل مـا كان بهذه الصفة لم
يجانس مكوّنـه الواجب لذاته، فـلا يكون لـه ولد، لأن من حـق الوالد أن يجانس والده
أي كل ما فيـه﴾. ونحن إذ ننقل هذا التـعليق من الإمام البيضاوي فـذلك لبيان
مـعنى استحـالة الأخذ ولداً لله بـهذه الطريقـة. والكلمة جئتم شيئاً إداً تعني المُنكَر العظيم. لذلك عنى بانفطار السماء
وانشقاق الأرض وخرور الجبال غضبه على مَنْ تفوّه
بالقول: « اِتّخذ
الرحمَن ولداً».
2-النظرية
الثـانية:
ضم جزء لله
من خلقه. القول بابن لله تعالى معناه ضم جزء لله من خلقه ﴿وَجَعَلُوا
لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، إِنَّ اْلإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ
مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ﴾ ([4]).
فسَّره
البيضاوي: ﴿وجعلوا من عباده ولداً، ولعله سمَّاه جزءاً كما يُسمَّي بعضاً لأنه
بعضه من الوالد دلالة على استحالته على الواحد الحق في ذاته﴾. فالقول بالابن
لله هو ضم جزء له من خلقه، وذلك ممتنع بين الخالق والمخلوق لأنه لا نسبة بينهما،
ولا صلة كيانيّة.
ومن هنا
انطلق السؤال: أيّة نسبة بين الخالق والمخلوق حتّى يُضمّ جزٌء من المخلوق إلى
خالقه؟ يستحيل ذلك فطرةً وعقلاً. وأيضاً انطلقوا من القول إن كلّ ما في السموات
والأرض إلاّ آتي الرحمن عبداً، ليقولوا: لا يمكن للعبد أن يكون ربّاً. ومن القول
بديع السموات والأرض، قالوا: لا يمكن أن يكون المخلوق خالقاً.
ونحن
كمسيحيّين نقرّ أنّه لا يجوز أن يُضمّ جزء إلى الله من خلائقه، ولكن في عقيدتنا لا
ينطبق هذا على العلاقـة القائمة بين الآب والابن. لأنّ الابن ذو جوهر واحد مع
الآب، والقرآن يقول إنّ المسيح هو كلمة الله وروح منه. فضمّ جزء إلى الله من
مخلوقاته ليس وارداً في شأن المسيح.
3 - النظرية
الثالثة:
«البنوة الجسدية والولادة التناسلية». وهذه هي
النظرية السائدة لامتناع الابن أو الولد
على الله». وجعلوا لله شركاء «الجن»، وقـالوا له
بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون. ﴿بَدِيعُ الَّسمَواِت وَالأَرِض
أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ؟ وَخَـلَقَ كُلَّ شَيءٍ
وَهُوَ بِكٌلِ شَيءٍ عَـلِيمُُ﴾ ([5]).
فسَّر
البيضاوي ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ أي من أين؟ أو كيف يكون له ولد ولم تكن له
صاحبة يكون منها الولد؟ وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوده.
الأول: من
مبدعاتـه السماوات والأرض، وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنهـا
لاستمرارهـا وطول مدتها، فهو أولى بأن يتعالى عنها.
الثاني: إن
المعقول من الولد ما يتّولد من ذكر وأنثى متجانسيْن، والله تعالى منَّزه عن
المجانسة.
الثالث: «إن الولد كـفؤ الوالد، ولا كفء له بوجهين: الأول: إن
كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه، والثاني: أنه لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره بالإجماع»، فلا يفهم
مفسرو القرآن البنوة إلا من ذكر وأنثى، فلا ولد إلا من «صَاِحبَةً» وتعـالى الله عن الصاحبة والولد منها علواً كبيراً،
فحتى الجن نفسها تعلن: ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَـدُّ رَبِنَـا مَـا اتَّخَـذَ
صَاِحبَةً وَلاَ وَلَدًاً﴾ ([6]).
فسَّره
البيضاوي «تَعَالَى
جَـدُّ رَبِنَـا» أي عظمتـه من جد فلان في عيني، أي عظم ملكه وسلطانه
أو غناه، والمعنى: وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو سلطانه أو لغناه.
وقوله: «مَـا
اتَّخَـذَ صَاِحبَةً وَلاَ وَلَدًاً» بيان ذلك. فاستحالة الأبوة والبنوة في الله قائمة
على أنه تعالى ربنا عن الزوجـة والصاحبة، فلا ولد أو ابن في نظر القرآن بدون
صاحبة!! فـلا يفهم القرآن الولادة والبنوة في الله (أياً كانت) إلا بزوجة وزواج، فهي
بنوّة جسدية تناسلية. تلك هي جدليّة القرآن في نسبة البنوة إلى الله تعالى.
ولا وجود لبنوّة
من هذا النوع أو ما يشبهـه في الإنجيل ولا في المسيحية. إذ تقول المسيحية ببنوّة
في ذات الله تجعلهـا فوق الحسِّ وفوق الروح وفوق المخلوق كله. إنها من ذات الله في
ذات الله لصلة ذاتية في الله، كتسلسل النطق من الناطق. الكلمة الإلهية «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان
الكلمة الله. «فهي بنوة
روحية (أصيلة،غير مكتسبة) أزلية ذاتية في ذات الله»، عبَّر عنهـا
القرآن بالقول: ﴿إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّه
وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَـا إِلى مَرْيَمَ وَرُوحُُ مِنهُ﴾ ([7]). وقد
علّقَ البيضاويّ على الآية بقوله إنّ المعقول من الولد هو ما يتولّد من ذكر وأنثى
متجانسَيْن والله تعالى منّزه عن التجانس.
هذه هي نظريّة
الإسلام في استحالة الولد إلى الله، فإنّه لا صاحبة له. ولا يمكن أن تكون له
صاحبة. وهذا هو سرّ استنكار أُبّوة الله للمسيح. لأنّه لا بُنوّة في الفكر
القرآنيّ إلاّ البنوّة التناسليّة الجسديّة. وممّا يؤيّد ذلك ما جاء في كتاب جامع
البيان للطبريّ، عن ابن وهب عن أبي زيد أنّه قال: الولد إنّما يكون من الذكر
والأنثى، ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة، فيكون له ولد. وذلك أنّه هو الذي
خلق كلّ شيء. فإذا كان لا شيء إلاّ الله خلقه، فأنّى يكون له ولد؟
ويرجّح ثقات الباحثين أنّ الآية نزلت في حقّ بعض أهل البدع من أصل وثنيّ،
الذين التصقوا بالكنيسة، وكانت لهم محاولة ليُدْخِلوا فيها بدعة مفادها أنّ مريم
العذراء إلهة. ولعلّهم استعـاضوا بها عن الزهرة، التي كانوا يعبدونها قبلاً. وقد
أشار إليهم العلاّمة الكبير أحمد المقريزي في كتابه([8]). وذكرهم ابن حزم في كتابه([9]). وبما أنّ بدعتهم تفترض اِتّخاذ الله صاحبة وإنجاب ولد منها، فبديهيّ أن
يشجبها القرآن. ولنا عودة مع موضوع الثالوث.
لكنّ هذه
الفكرة بعيدة كلّ البعد عن المسيحيّة، وليس ثمّة مسيحيّ واحد يؤمن بها. لأنّها
إهانة موجَّهة إلى جلال الله القدّوس، المنزَّه عن كلّ خصائص الجسد.
والحقيقة
أنّ الباحث في عقيدة المسيحيّين المبنيّة على الإنجيل، يرى أنّهم لا يقولون
إطلاقاً بأنّ المسيح ابن الله على طريقة الاستيلاد من صاحبة، بل يؤمنون بأنّـه ابن
الله على طريقة الصدور منه في الوجود الإلهيّ، بصفة كونه الكلمة الذي كان في البدء
عند الله، وقد حُبِل به من الروح القُدُس.
وقد أشار
الرسول العظيم بولس إلى هذه الحقيقة بقوله: «بُولُسُ،عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْمَدْعُوُّ
رَسُولاً، الْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ اللّهِ، الَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ
بِأَنْبِيَائِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ،عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ
نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ابْنَ اللّهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ، بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ يسوعَ الْمَسِـيحِ ربنا»([10]).
4-النظرية
الرابعة:
كان يأكل
الطعام كقوله: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ
كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ
انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ([11]).
ففكر
الإسلام هنا يقول إنّ استحالة الألوهية على المسيح ظاهرة من بشريّته. فمَن يأكل
الطعام كيف يكون إلهاً؟ ويقول الرازيّ في تفسير الآية:
أ- إنّ كلَّ
مَن كان له أمّ فقد حدث، بعد أن لم يكن. وكلّ مَن كان كذلك كان مخلوقاً لا إلهاً.
ب - إنّهما
كانا محتاجَيْن إلى الطعام أشدّ الحاجة، والإله هو الذي يكون غنيّاً عن جميع
الأشياء. فكيف إذاً يكون المسيح إلهاً.
ج - قوله «كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ» كناية عن الحدث. لأنّ مَن أكل الطعام لا بدّ وأن
يحدث (وهذا عند الرازيّ ضعيف).
5- النظرية
الخامسة:
عجز المخلوق
عن النفع والضرّ - كقوله: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ([12]).
يتّخذ
المفسّرون هذه الآية دليلاً على فساد قول النصارى وقد قالوا إنّه يحتمل أنواعاً من
الحجّة:
أ - إنّ
اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الإضرار بهم. وكان أنصاره وصحابته يحبّونه، فما قدر على إيصال
نفع من منافع الدنيا إليهم. والعاجز عن الإضرار والنفع، كيف يُعقَل أن يكون إلهاً.
وتغطية لهذا التفسير، قال البيضاويّ: إنّ عيسى وإن ملك هذا الامتياز بتمليك الله
إيّاه، لا يملكه من ذاته. ونحن نقول: لو كان المسيح مجرّد عيسى القرآن، عيسى العبد
لسلَّمنا بأنّه لا يملك من ذاته ضرّاً ولا نفعاً. ولكنّ المسيح كما قـال إشعياء
النبيّ: «و يدعى اسمه
عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبديًّاً رئيس السلام»([13]). ونحن نشكره
لأنّ رسالته لم تكن للضرر ولا للنفع المادّيّ. بل كانت رسالة خلاص، والقرآن نفسه
قال إنّه جاء «رحمةً للعالمين».
ب
- إنّ مذهب النصارى يقول إنّ اليهود صلبوه ومزّقوا أضلاعه. ولمّا عطش، وطلب الماء منهم، صبّوا الخلّ في منخريه. ومَن كان
في الضعف هكذا، كيف يُعقَل أن يكون إلهاً؟!
ج – إنّ إله العالم يجب أن يكون
غنيّاً عن كلّ ما سواه. ويكون كلّ
ما سواه محتاجاً إليه، فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولاً بعبادة الله تعالى.
لأنّ الإله لا يعبد شيئاً، إنّما العبد هو الذي يعبد الإله. ولمّا عُرف بالتواتر
كونه كان مواظباً على الطاعات والعبادات، علمنا أنّه إنّما كان يفعلها لكونه
محتاجاً في تحصيل المنافع، ودفع المضارّ إلى غيره. ومَن كان كذلك، كيف يقدر على
إيصال المنافع إلى العباد، ودفع المضارّ عنهم؟ وإذ كان كذلك كان عبداً كسائر
العبيد.
v ناسوت
المسيح في الإسلام
1-
عبد لا رب:
كقول القرآن بلسان المسيح: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ
آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا
كُنْتُ، وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً، وَبَرّاً
بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾ ([14]).
جاء في التفسير الكبير للإمام الرازي أن لكلمة «عَبْدُ اللَّهِ» أربع فوائد:
1 - رفع الوهم عن الذي ذهبت إليه النصارى من أنه
إله.
2 - إن
المسيح، لما أقرَّ بالعبودية، فإنْ كان صادقاً في مقاله فقد حصل الغرض. وإن كان
كاذباً، لم تكن القوة قوة إلهية بل قوة شيطانية، فعلى التقديرين يبطل كونه إلهاً.
3- إن الذي اشتدت الحاجة إليه في ذلك الوقت إنما هو
نفي تهمة الزنا عن مريم. ثم أن عيسى لم ينص على ذلك، وإنما نصَّ على إثبات عبودية
نفسه، كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أوْلى من إزالة التهمة عن الأم.
4 - إن
التكلم بإزالـة هذه التهمة عن الله يفيد إزالة التهمـة عن الأم، لأن الله لا يخص
الفاجرة بولد في هذه الدرجـة العـاليـة والمرتبـة العظيمـة. ثم يُعلِّق الرازي
على اعتقاد النصارى بلاهوت المسيح، فيقول: «إن مذهب النصارى متخبط جداً، فقد اتفقوا أن الله سبحانه
وتعالى ليس بجسم ولا متحيز، ومع ذلك فإنا نذكر تقسيماً يبطل مذهبهم على جميع
الوجوه. فنقول: أما إنْ يعتقدوا كونه متحيزاً أبطلنا قولهم على حدوث الأجسام. وإن
اعتقدوا أنه ليس متحيزاً فحينئذ يبطل قولهم من أن الكلمة اختلطت بالناسوت اختلاط
الماء بالخمر، وامتزاج النار بالفحم. لأن ذلك لا يُعقل إلا في الأجسام».
v الفكر المسيحي:
فكر القرآن
بالنسبة لشخص المسيح قائم على حقيقتين تحملان سراً لا يدركه الإنسان الطبيعي:
1 - إن
المسيح بصفة كونـه ابن مريم، هو عبد الله. وهـذا التـعبير ورد في التوراة: «هُوَذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي
وَيَتَسَامَى جِدّاً...وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ،
وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا»([15]).
2 - إن
صفة (عبد) لا تستطيع أن تنفي القول القرآني بأنه «كَلِمَتُهُ أَلْقَـاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ
مِنْهُ». والمتأمل بـعمق في هـذا النص
الـقرآني
المزدوج، يلاحظ من خلالـه ما يوفق إعـلان بولس أن «يسوع صار من نسل داود من جهة
الجسد. وتعيّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات: يسوع المسيح
ربنا»([16]).
3 - والقرآن
يلقب المسيح بالكلمة- والكلمة هُنا مسمى ذكر عاقل، قـائم بذاته فقال: «اسمه» ولم يقل: «اسمها» مع أن الكلمة مؤنث، دلالة على أن هذا الكلمة ليس
لفظاً، بل شخصاً قائماً بذاته، وتتضح هنا حقيقتان هامتان:
(1) كل ما
يتعلّق بذات الله تعالى أزلي، فلا بد أن يكون كلمة الله أزليـاً، وهذا واضح من القول: ﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾،
أي أن هذا الكلمة كائن من قبـل أن يُلقى إلى مريم. فالمسيح هو ذات كلمة الله،
وبـعبارة أخرى هو ذات الله، لوحدة الطبيعـة الإلهية، وبحكم أن الكلمة صدر من الله
بـغير طريق الخلق والإبداع، فالمسيح أزلي، (هو الأزلي مع الآب منذ الأزل)([17]).
(ب) تسافر كلمة الإنسان المحدود آلاف الأميال، وتظل في عقله في نفس الوقت (دون انفصال). فما بالك
بكلمة الله الغير محدود!
4 -
ويُلقِّب الـقرآن المسيح بأنه روح منه، وفيها يقول الرازي:
( أ) إنـه كان سبباً لحياة الخلق في أديانـهم. ولما كان
كذلك وُصِفَ بأنـه روح.
(ب) ﴿وَرَوُحٌ
مِنْهُ﴾ أي رحمة منه، فعيسى كان رحمة من الله على الخلق من
حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم. [وإننا
نتساءل: هل لُقِّب أي شخص آخر بأنه رحمة من الله؟ لقد تحققت في المسيح مصالحة
العدل مع الرحمة([18])].
(ج) قـوله ﴿روح﴾
أدخل التكبير في هذا اللفظ لإفـادة التعظيم، كان
المعنى أنه روح من الأرواح الشريفـة العـالية القدسية. والبيضاوي يقول: «وَرَوُحٌ مِنْهُ»، أي ذو روح
صدر منه لا بتّوسط ما يجرى مجرى الأصل والمادة له. وقيل سُمِّي روحـاً، لأنـه كان
يحيي الأموات والقلوب.
فهـل كان
الله قبل أن يُبدع هذا العالم ذا روح وكلمة، أم لـم يكـن كذلك؟ فإن قيل: «له روح وكلمة منذ الأزل» سـألنا:
أهما ذات الله أم غـيره؟ فإن قيل: «غيره»، سألنا: إذاً فمع الله اثنان. ومن كان معه غيره فهو
ليس واحداً أحد. وهذا باطل. وإنْ قلنا إن الروح والكلمة مخلوقان وليسا موجوديْن
منذ الأزل، كان هذا مناقضاً للاعتقاد البديهي في الله تعالى، من أنه الكائن الأزلي
الحي الناطق، الروح جـوهر حيَّ، والكلمة كُنْهُ الناطق. فالروح والكلمة هما ذات
الله، لهما صفاته كلها دون تعدد ولا انفصال. فلا يمكننا أن نقول إن ذات الله حُرمت
من النطق والحياة حيناً من الزمن. فروح الله لابد وأن يكون أزلياً كـالذات
الإلهية، والأزلية تخـص الله فقط. وكلمة الله كائن أزلي قبل حـلوله في مريم. [فلا
مجـال للشك في أن المسيح أزلي].
(5) ويلقب القرآن المسيح بأنه ﴿الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾. قال الرازي: إنه سُمّي المسيح لأنه مُسِح من الأوزار والآثام، ولأن جبريل مسحه بجناحه
وقت ولادتـه ليكون ذلك صونـاً له من مسّ الشيطان. ويقول المسيحيون أنه سُمّي «ابْنُ مَرْيَمَ» بسبب ميلاده
العذراوي، تحقيقاً للنبوة الأولى عن مجيئه، إنه نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية([19]).
وتحقيقاً لنبوة إشعياء: «ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل (ومعناه: الله معنا)»([20]).
ونقول إنه:
[إنْ كان قد نُسب إلى مريم كأُمه- فلمن ننسبه كأب له؟ ونجيب: ننسبه لله، فهو
المسيح ابن الله، كما أعلن جبرائيل الملاك لأمه العذراء: «هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعى...فلذلك القدوس
المولود منكِ يُدعى ابن الله»([21]).
2 - المسيح مثل آدم، كقوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ
آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُنْ، فَيَكُونُ﴾ ([22]).
قـال الرازي: «في الآيـة إشكال، وهو أنه كان ينبغي أن يقول كن فكان». وهناك اجتهادات للرد:
جاء في جامع
البيان لأبي جعفر الطبري أن الله قـال: «يا محمد، أخبر نصارى نجران أن شبَه عيسى في خلقي إياه
من غير فحل كشبه آدم، الذي قـلت له كن فيكون، من غير فحل ولا ذكر ولا أنثى. فليس
خلقي عيسى من أمه من غير فحل بأعجب من خلقي آدم». وعن محمد بن
سعد، عن أبيه، عن ابن عباس، قـال: «جاء رهط من أهل نجران، قدموا على محمد، وكان فيهم
السيد والعاقب، فقالوا لمحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال من هو؟ فـقالوا عيسى،
تزعم أنه عبد الله. فقال محمد أجل إنه عبد الله. فقالوا: رأيت مثل
عيسى أو أنبئت به؟ ثم من خرجوا من عنده. فجاءه جبريل بأمر ربنا السميع العليم،
فقال: «قل لهم إذا أتوك: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ
اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾.
وفي رواية أخرى (عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن
المفضل، عن السدي)، قال: «لما
بُعث محمد وسمع به أهل نجران، آتاه أربـعة من خيارهم: العاقب والسيد وماسرجس
وماريجز، فسألوه ما يقول في عيسى؟ فقال هو عبد الله وروحه وكلمته. فقالوا: لا هو
الله. نزل من ملكه، فدخل في جوف مريم، ثم خرج منها. فهل رأيت قط إنساناً ولد من غير أب؟ فأنزل الله عز وجل ﴿إِنَّ
مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾.
وفي رواية
ثالثة عن القسام، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: «بلغنا أن نصارى نجران قَدَمَ وفدهم على محمد، فيهم
العاقب والسيد، فقالا: يا محمد لِمَ تشتم صاحبنا؟ فقال: من هو صاحبكما؟ قالا: عيسى
ابن مريم. تزعم أنه عبد. قال: أجل إنه عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
فغضبوا منه، وقالوا: «إنْ كنت صادقاً فأرنا عبداً يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من
الطين كهيئة الطير فينفخ فيهـا فتصير طيراً، لكنه إله». فسكت حتى أتاه جبريل فقال: «يا محمد لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ
ابْنُ مَرْيَم». فقال
محمد: «يا جبريل إنهم سألوني أن أخبرهم بمثل عيسى» فقال جبريل: «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ». كان يمكن القول إن مثل مريم كمثل آدم، فكلاهما نفخ
الله فيه. عـن آدم «نَفَخْتَ فِيهِ مِنْ رُّوحـيِ»([23]). وعن العذراء «فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُّوحِنَا»([24]). ولم يؤّلـه أحدُُ آدمَ ولا العذراء مريم.
ومن المعروف أن آدم خُـِلق من طين، بغير أب ولا أم. وكان يجب
أن يوجد كذلك لعدم وجود آباء ولا أمهات! ولكن ما الحكمة أن يجيء المسيح بدون أب
بشري مع أن الأرض عامرة بالآباء الـوالدين والأبنـاء المولودين؟ - لا بد أن نـفتش
عن سبب آخر من إعـلان الله لنا بالوحي المقدس. لنفهم قصد الله من مجيء كلمته إلى
العالم في جسد بشري. ولكننـا لا نقدر أن نقول:
«إن مثل المسيح كمثل آدم».
ولو كان
المسيح مثل آدم لأُطـلق على آدم لقب «كَلِمَةُ اللَّهِ» كما لُقِّب المسيح. ولا يمكن أن يكون آدم الذي عصى ربـه مثل المسيح الذي
لم يخطئ أبداً. الفرق واضح بين المسيح الذي تـفَّرد دون سائر الرسل والأنبياء
بوصفـه «كَلِمَةُ
اللَّهِ».
v الثالوث في الإسلام:
لعل الخلاف
الأكبر في الحوار بين المسيحيّة والإسلام، هو الخلاف القائم على اعتقاد المسيحيين
بألوهية المسيح، الأمر الذي يحسبه الإسلام كفراً. وقد اعترض بعض مفكري الإسلام على
هذه العقيدة بعدة آيات من القرآن، أبرزها أربع، وردت في سورة المائدة، وآية خامسة
في سورة النساء.
1- ﴿لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ
فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ ([26]).
2- ﴿لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ
الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ
مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ
النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ ([27]).
3- ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا
مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ
لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ([28]).
4- ﴿وَإِذْ
قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ
مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ﴾
([29]).
5-﴿يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا
الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ فَأمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا
تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ
سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾ ([30]).
ومن يتأمل
هذه الآيات في ضوء تفاسير علماء الإسلام يلاحظ أن هذه النصوص تحارب تعليماً يحمل
معنى الإشراك بالله وتعدّد الآلهة وعبادة البشر. ولكن المسيحيّة لا تُعلّم
بالإشراك ولا بتعدّد الآلهة ولا بعبادة البشر، بدليل قول المسيح: «لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ
تَعْبُدُ»([31]).
لعل من يقرأ
المائدة 5: 116 يتصَّور أن المسيحيين يؤلهون مريم العذراء، وهذا غير صحيح. والواقع أن السؤال الموجَّه إلى
المسيح هنا، نشأ من وجود أهل بدعة قبل ظهور الإسلام. وهم أناس وثنيون حاولوا
الالتصاق بالكنيسة، فنادوا ببدعة مفادها أن مريم العذراء إلهة. ويقول المؤرّخون إنهم استعاضوا بها عن الزهرة التي كانوا يعبدونها قبلاً.
وقد أطلقوا على أنفسهم اسم (المريميين). وأشار إليهم العلاّمة أحمد المقريزي في
كتابه([32]).
وذكرهم ابن حَزْم في كتابه([33]). ولكن
هذه البدعة بعيدة كل البُعد عن المسيحيّة.
وليس هناك
مسيحي واحد يؤمن بها. وقد انبرى العلماء المسيحيون وقتها لمقاومة هذه الضلالة بكل
الحجج الكتابية والعقلية، ولم ينتهِ القرن السابع حتى كانت قد تلاشت. وكذلك المسيحيّة لا تعلّم بأن المسيح إله من دون الله، بل تؤمن بأن الآب
والابن إله واحد، بلا تعدّد ولا افتراق. وقد أكّد المسيح ذلك بقوله: «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ...أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ»([34]).
أما قول
القرآن: «لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ»، والذي يستند
عليه أعداء المسيحيّة، فقد قيلت بطائفة (المرقونيين) الذين لفظتهم الكنيسة وحرمت
أتباعهم، لأنهم علَّموا بتثليث باطل، ونادوا بثلاثة آلهة وهم:
(أ) عادل، أنزل التوارة.
(ب) صالح، نسخ التوراة.
(ج) شرير،
وهو إبليس.
كما أن الإسلام في نصوصه هذه، حارب
طائفتي المانوية والديصانية اللتين تقولان بإلهين أحدهما للخير وهو جوهر النور، والثاني
للشر وهو جوهر الظلمة.
إذاً
فالإسلام لم يحارب عقيدة الثالوث المسيحيّة الصحيحة، كما يتوهَّم البعض. ولهذا لا
نعتبر أن آيات القرآن المقاومة لتعدد الآلهة كانت موجَّهة ضد المسيحيّة. وحين
نتتبع هذا الموضوع في الكتب الإسلامية، نرى أن علماء المسلمين بحثوا في عقيدة
الثالوث وهذه هي تعليقاتهم على قول القرآن «وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ»([35]).
1- تفسير
الرازي: صفات
ثلاث-فهذا لا يمكن إنكاره. (الرازي وهو صاحب التفسير الكبير. ولكنه يتعرّض
لصيغة التثليث المسيحي ويطبق عليها تكفير القرآن للثلاثة، لتفسيره الخاطئ): قوله «ثَلاثَةٌ»، خبر مبتدأ
محذوف. ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدأ على وجوه:
الأول: ما ذكرناه، أي ولا
تقولوا الأقانيم ثلاثة. المعنى لا تقولوا: إن الله سبحانه هو واحد بالجوهر، ثلاثة
بالأقانيم. واعلم أن مذهب النصارى مجهول جداً، والذي يتحصل منه أنهم أثبتوا ذاتاً
موصوفة بصفات ثلاث. إلاَّ أنهم سمُّوها صفات، وهي في الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها. فلهذا المعنى قال: ولا تقولوا: ثلاثة انتهوا فأما إن
حملنا «الثَلاثَةٌ»
على أنهم يُثبتون صفات ثلاث فهذا لا يمكن إنكاره.
وكيف لا نقول ذلك، ونحن نقول: هو الله الملك القدوس ونفهم من كل واحد من هذه
الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر. ولا معنى لتعدد الصفات إلاَّ ذلك. فلو كان
القول بتعدّد الصفات كفر، لزم ردّ جميع القرآن، ولزوم ردّ العقل، من حيث نعلم
بالضرورة إن المفهوم من كونه تعالى عالماً، غير المفهوم من كونه حيّاً.
الثاني:
آلهتنا ثلاثة، كما قال الزجّاج مستشهداً بآية المائدة
5: 116.
الثالث: قال
الفرّاء: «هم ثَلاثَةٌ» كقوله: سيقولون: «ثَلاثَةٌ». وذلك لأن ذكر عيسى ومريم مع الله بهذه
العبارة يوهم كونهما إلهين.
ويعلق
الكاتب المسيحي الحكيم، الذي اقتبسنا منه قوله: ونحن لا يعنينا التفسير اللغوي
للمبتدأ المحذوف. إنما يهمنا تفسير الرازي لمقالة المسيحيين في التثليث. فهو يرد
الأقانيم الثلاثة لأنها في الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها. وهذا هو غلطه في فهم
العقيدة المسيحيّة. فليست الأقانيم الثلاثة في الله ذوات قائمة بأنفسها، إنما ذوات
قائمة في جوهر الله الواحد.
والتثليث
المسيحي هو كما وصفه الرازي: أنهم أثبتوا ذاتاً موصوفة بصفات ثلاث. والمسيحيون
يسمون هذه الصفات الإلهية الثلاث: الأبوة والبنوّة والروحانية في الله «أقانيم"، لتمييزها عن سائر صفات الله. فتلك
الأقانيم الثلاثة هي صلات ذاتية كيانية - لا محض صفاتية - وهي قائمة في الجوهر
الإلهي الفرد. لذلك نردّ على الرازي قوله: فأما إنْ حملنا الثلاثة - ويجب أن
نحملها - على أنهم يثبتون صفات ثلاث، فهذا لا يمكن إنكاره...فلو كان القول بتعدد
الصفات كفر، لزم رد جميع القرآن، ولزم رد العقل.
فالمسيحيون
يثبتون في الله ذاتاً موصوفة بصلات ذاتية كيانية ثلاث، يسمّونها الآب والكلمة
والروح. هذا هو التثليث المسيحي الصحيح الذي لمحه الرازي وابتعد عنه لسبب في نفسه.
وهذا ما يثبته المسيحيون من صلات ذاتية، أو صفات كيانية، في الله. فمن أنكرها لزمه
ردّ القرآن، ولزمه رد العقل، لأن هذا التثليث الصحيح من صميم التوحيد.
2- تفسير الغزالي: وهو
ينصف المسيحيّة في عقيدتها التثليثية. قال حجة الإسلام الإمام الغزالي في كتابه([36])، يحلّل
التثليث المسيحي:
«يـعتقدون
أن ذات الـباري واحدة. ولـها اعتبارات:
1 – فإن اعتُبرت مقيَّدة بصفة لا يتوقف وجودها على تقدم وجود صفة قبلها
كالوجود، فذلك المسمَّى عندهم بأقنوم الآب. وإنْ اعتُبرت موصوفة بصفة يتوقف وجودها
على تقدم وجود صفة قبلها، كالِعلم – فإن الذات يتوقف اتّصافها بالعِلم على اتّصافها
بالوجود – فذلك المسمَّى عندهم بأقنوم الابن أو الكلمة. وان اعتُبرت بقيد
كون ذاتها معقولة لها، فذلك المسمَّى عندهم بأقنوم روح القدس. فيقوم إذن من الآب
معنى الوجود، ومن الكلمة أو الابن معنى العلم [الحكمة]، ومن روح القدس كون ذات
الباري [روح] معقولة له. هذا هو حاصل هذا الاصطلاح فتكون ذات الإله واحدة في
الموضوع، موصوفة بكل أقنوم من هذه الأقانيم.
2- ومنهم من يقول: إن الذات، إن
اعتُبرت من حيث هي ذات، لا باعتبار صفة البتة، فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن العقل
المجرد، وهو المسمَّى عندهم بأقنوم الآب. وإنْ اعتُبرت من حيث هي عاقلة لذاتها، فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن معنى
العاقل، وهو المسمى بأقنوم الابن أو الكلمة. وإنْ اعتُبرت بقيد كون ذاتها معقولة
لـها، فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن معنى المعقول، وهو المسمَّى بأقنوم روح القدس.
فعلى هذا
الاصطلاح يكون العقل عبارة عن ذات الله فقط. والآب مرادفاً له، والعاقل عبارة عن
ذاته بقيد كونها عاقلة لذاتها، والابن أو الكلمة مرادف له، والمعقول عن الإله
عبارة عن الإله الذي ذاته معقولة له، وروح القدس مرادف له.
هذا اعتقادهم في الأقانيم: «إذا صحَّت
المعاني فلا مشاحة في الألفاظ، ولا في اصطلاح المتكلمين». وقد أنصف الغزالي التثليث المسيحي في هذا الحكم: «والمعاني قد صحَّت، بحسب التنزيل الإنجيلي، والكلام
المسيحي الذي يفصّله».
ويعلّق
الكاتب الحكيم على أقوال الغزالي فيقول: فالغزالي يشهد للمسيحيين بالتوحيد. ويشهد
لهم بصحة اصطلاحهم في تفسير التثليث في التوحيد، بناءً على الاعتبارين اللذين
ساقهما عنهم: الأول على اعتبار الأقانيم في الله صفات ذاتية، في الذات الإلهية
الواحدة، والثاني على اعتبار الأقانيم في الله أفعالاً ذاتية في الذات الإلهية
الواحدة. والقول الصحيح الذي يجمع الأفعال الذاتية والصفات الذاتية، في الله
الواحد الأحد، كونها صلات كيانية بين الله الآب وكلمته وروحه، في الجوهر الإلهي الواحد.
3 – تفسير الزمخشري: يقولون: هو
جوهر واحد، ثلاثة أقانيم. إنْ صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون:
هو جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أقنوم الآب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس، وأنهم
يريدون بأقنوم الآب الذات وبأقنوم الابن العلم وبأقنوم روح القدس الحياة - فتقديره
(الله ثلاثة). وإلاَّ فتقديره (الآلهة ثلاثة). والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم
بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة وأن المسيح ولدُ الله من مريم. ألا ترى إلى
قوله: «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ
اللَّهِ!» وحكاية
الله أوثق من حكاية غيره.
وقد علَّق
كاتب مسيحي حكيم على تفسير الزمخشري بقوله: نعم، إن حكاية الله أوثق من حكاية
غيره. لكن القرآن حكى في تلك الآية لتفسير «الثَلاثَةٌ» مقالة بعض النصارى من جهال العرب في تثليثهم الكافر
الذي كفَّرته المسيحيّة قبل القرآن. فجاء الزمخشري وجعل من ذلك التثليث المنحرف
تثليث المسيحيّة ظلماً وعدواناً، مع أنه ينقل التثليث المسيحي الصحيح بتعبيره الصريح:
الله ثلاثة: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم. ولماذا يشك في صحة قولهم الذي يورده عنهم،
وينسب إليهم قولاً كافراً هم منه براء؟ إنه يفتري على القرآن وعلى المسيحية إذ
يقول: «وحكاية الله أوثق من حكاية غيره».
4 – تفسير البيضاوي:
الله ثلاثة أقانيم: الآب والابن وروح القدس. ولا تقولوا: ثلاثة! أي الآلهة ثلاثة:
الله والمسيح وأمه. ويشهد عليه قوله: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ: اتَّخِذُونِي
وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟- أو «الله ثلاثة» إن صحَّ انهم يقولون:
الله ثلاثة أقانيم، الآب والابن وروح القدس، ويريدون بالآب الذات وبالابن العلم
وبروح القدس الحياة.
والمسيحيون
يسألون البيضاوي وأمثاله: لماذا هذا الشك من مقالتهم التي بها يجهرون؟ ولماذا
الافتراء عليهم بنسبة مقالة كافرة من بعض جهال الجاهلية، إلى المسيحيّة جمعاء، وهي
منها براء؟ فالبيضاوي ينقل أيضاً صيغة التثليث الصحيح ولا يكفّرها، بل يُكذِّب
غيرها مثل غيره، اعتماداً على ظاهر القرآن في ما لا يعني المسيحيّة بشيء.
مطابقة الأشعرية للمسيحيّة: الأشعرية هي مذهب أهل السنّة والجماعة في الإسلام.
ومقالتها في مشكل الذات والصفات في الله، هي أصحّ تعبير لحقيقة الأقانيم الثلاثة
في الله. كانت الصفاتية تقول: صفات الله هي غير ذاته، مما يقود الى القول بقديمين.
فجاءت المعتزلة تقول:صفات الله هي عين ذاته، مما يقود إلى التعطيل في الله. وقامت
الأشعرية تقول بمنزلة بين المنزلتين: الصفات في الله ليست هي عين الذات، ولا هي
غيرها، إنما هي في منزلة بين المنزلتين. وكيف يكون ذلك؟ هذا سر الله في ذاته. «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً»([37]).
والتعبير
الأشعري، وهو قول الإسلام في الذات والصفات، أصحّ تعبير
للتثليث المسيحي: إن الأقانيم الثلاثة في الله الواحد الأحد صفات ذاتية، بل صلات
كيانية ·ليست هي عين الذات ولا هي غيرها، إنما هي في منزلة بين المنزلتين. وإذا
قيل: كيف يكون ذلك؟ أُجيب بما قاله الإمام مالك في تفسير:
«الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»([38]). قال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه
بدعة».
فإذا كان السؤال عن
تعبير قرآني مجازي بدعة ، فكم بالحري السؤال عن صلات الله الأقنومية في ذاته؟ لذلك
يكفر من يحـوّل الكلام في الذات والأقانيم إلى عملية حسابية، فيقول: كيف يكون
الواحد ثلاثة؟ كلا ليس الواحد ثلاثة، على اعتبار واحد، وعلى صعيد واحد، إنما الله
واحد في ذاته مثلث في صفاته، أو صلاته الذاتية أي أقانيمه الثلاثة. وليس في هذا ما
يتعارض مع النقل الكريم، ولا مع العقل السليم. هذا هو التثليث الصحيح، في التوحيد
الخالص.
وهذا
التثليث الإنجيلي في التوحيد الكتابي ليس بالتثليث المنحرف الكافر الذي يكفّره
القرآن بمقالته في «الثلاثة»، وصيغها
الأربعة، وقد كفرتها المسيحيّة من قبله. لذلك فتكفير التثليث المسيحي باسم التوحيد
القرآني، هو افتراء على التوحيد وعلى القرآن، وجهل بالإنجيل والعقيدة المسيحيّة.
إن التثليث
المسيحي في التوحيد الخالص هو تفسير مُنزَل لحياة الحي القيوم في ذاته الصمدانية،
فلا خلاف على الإطلاق بين التوحيد القرآني والتثليث الإنجيلي، في التوحيد الكتابي
المتواتر في التوراة والإنجيل والقرآن. «وَلا تُجَادِلُوَاْ أهُلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي
هِيَ أَحسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنهُم وَقُولُوَاْ آمَنَّا بِالَّذِى
أُنزِلَ إِلَينَا وَأُنزِلَ إِلَيكُمْ
وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدُُ وَنَحنَ لَهُ مُسلِمُونَ»([39]).
[8] القول الإبريزي، تأليف: المقريزي (845هـ،1442م)
(تقي الدين) (أبو العباس) أحمد بن علي بن عبد القادر المحيوي الحسيني العبيدي
البعلي الأصل المصري الحنفي، مطبعة التوفيق بالقاهرة، التاريخ 1898م، صفحة 26.
[15] التوراة، العهد القديم في الكتاب المقدس، سفر إشعياء
اَلأَصْحَاحُ 52 الآية 13، واَلأَصْحَاحُ 53 الآية 11.