مباحث للعقلاء والمفكرين
المبحث الرابع
هل يعقل أن
الله ثلاثة ؟
إعداد
د. القس / سامي منير اسكندر
باحث ومحاضر في الدين المقارن
الفصل
السابع
هل
تعليم التثليث من الكتاب المقدس؟
(العهد
القديم «التوراة» والعهد الجديد):
يتحدث الإنجيل عن أن اللَّه واحد، ولكنه
يقول أيضًا إن الآب هو اللَّه، وإن الابن هو اللَّه، وإن الروح القدس هو اللَّه.
فلا بد إذًا أن يكون اللَّه واحدًا، ذا وحدانية جامعة وليس ذا وحدانية بسيطة. في
الوحدانية البسيطة يكون الواحد واحدًا، أما في الوحدانية الجامعة فإن الثلاثة يمكن
أن يكونوا واحدًا.
ولا نقرأ أبدًا في الإنجيل أن اللَّه هو
المسيح، لأن هذا القول يعني استبعاد الآب والروح القدس من الألوهية. ولكن الإنجيل
يعلّمنا أن المسيح هو اللَّه، وأن اللَّه هو الآب والابن والروح القدس، في وحدة
جامعة.
ولم يرد تعليم وحدانية اللَّه وتمـيُّز
الأقانيم أحدها عن الآخر ومساواتها في الجوهر وعلاقة أحدها بالآخر في الكتاب
المقدس جملة واحدة بالتصريح بل في آيات متفرقة. غير أن جوهر هذه الأمور منصوص عليه
من أول الكتاب المقدس لآخره. وإليك الأمور التي تثبت صحة هذا الاعتقاد:
v إعلانات الله عن ذاته في العهد القديم
في
هذا الإنجيل
أعلن
الله عن وحدانيته الجامعة، فهو إله واحد في ثالوث عظيم، وسنبدأ أولاً بذكر إعلانات
الله تبارك اسمه عن ذاته في التوراة وأسفار العهد القديم، واضعين نصب أعيننا أن
الله أعلم بما يدل على ذاته وآثاره وصفاته، وإن علينا أن نؤمن بما أعلنه عن ذاته
في كلمته.
v الإعلان الأول: في غرّة سفر التكوين
فهناك نقرأ الكلمات «فِي
الْبَدْءِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ»([1])، وفي
الأصل العبري جاءت كلمة خلق بالمفرد، بينما ورد اسم الله بالجمع، إذ تقول الآية في
الأصل العبري في البدء خلق إلوهيم السموات والأرض وكلمة إلوهيم هي جمع للاسم
العبري إلوه أي إله، وتؤكّد الصيغة اللفظية للآية وحدانية الله في ثالوث عظيم هذا
واضح من كلمة خلق التي تؤكد الوحدانية و إلوهيم التي تؤكد وجود الثالوث في هذه
الوحدانية.
v الإعلان الثاني: يوم خلق الله الإنسان:
بعد أن
أعد الله الأرض للسكنى، فأنبت فيها النبات، وخلق الحيوان، حان وقت خلقه للإنسان
فقال جلّ شأنه: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ
عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا»([2])، وأمام
ألفاظ هذه الصيغة يدور في الذهن أكثر من سؤال: مع من كان الله يتحدث حين قال نعمل؟ وهل
هناك من يعادله حتى يستشيره فيم يعمل، وهو المكتوب عنه «لأَنْ
مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟»([3])؟! وكيف
يمكن أن يكون الإنسان على صورة الله وشبهه، والله لا شبيه له كما قال إشعياء النبي:
«فَبِمَنْ
تُشَبِّهُونَ اللَّهَ وَأَيَّ شَبَهٍ تُعَادِلُونَ بِهِ؟»([4]). وما دلالة النون في نعمل و نا
في صورتنا وفي كشبهنا ؟
وكيف
يمكن أن يكون الإنسان جسداً، ويكون في ذات الوقت على صورة الله مع أننا نقرأ أن «اللّهُ رُوحٌ.
وَالذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا»([5])؟!
ولا
يمكننا أن نجد إجابة شافية عن هذه الأسئلة إلاّ إذا وضحت أمامنا حقيقة وحدانية
الله الجامعة ففيها نرى الآب والابن والروح القدس في حديث واحد يبدو في كلمة نعمل،
ونرى الثالوث العظيم يقرر الصورة التي سيخلق عليها الإنسان، وهي ذات الصورة التي
كان المسيح سيأتي بها متجسداً، ولقد قيل عن المسيح «الَّذِي هُوَ صُورَةُ
اللّهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ»([6])،
وقيل أيضاً: «وَلكِنْ إِنْ كَانَ
إِنْجِيلُنَا مَكْتُوماً، فَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُومٌ فِي الْهَالِكِينَ، الَّذِينَ
فِيهِمْ إِلهُ هذا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ،
لِئَلا تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ
صُورَةُ اللّهِ»([7])،
وعلى هذا يكون الإنسان قد خلق على صورة الله باعتبار أن المسيح هو صورة الله غير
المنظور، وهو في ذات الوقت الله الابن الذي تجسد في ملء الزمان.
وقد
يقول قائل: إن ألفاظ هذه الصيغة لا تعني أكثر من أن الله استخدم لغة التعظيم فتكلم
كما يتكلم الملك فيقول نحن، ملك لكن القائل بهذا القول يعلن عن جهله بالتاريخ
القديم، فالتاريخ القديم يؤكد لنا أنه لم يكن للملوك عادة التكلم بلغة الجمع أي
بلغة التعظيم، ففرعون ملك مصر إذ تحدث إلى يوسف قال له «قَدْ جَعَلْتُكَ
عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ»([8])،
ولم يقل قد جعلناك على كل أرض مصر وفي سفر دانيال نقرأ حديث الملك نبوخذ نصر، وقد
كان ملكاً جباراً يتمتّع بكل جبروت الحكم الأوتوقراطي، ومع ذلك فهو لم يستعمل لغة
التعظيم عندما تكلم عن نفسه بل تحدث إلى الكلدانيين «قائلاً: قَدْ خَرَجَ
مِنِّي الْقَوْلُ: إِنْ لَمْ تُنْبِئُونِي بِالْحُلْمِ وَبِتَعْبِيرِهِ
تُصَيَّرُونَ إِرْباً إِرْباً»([9])
ولم يقل الملك العظيم قد خرج منا القول فلغة التعظيم ليست هي لغة الكتاب المقدس،
ولا كانت لغة تعظيم الملوك في القديم، فالقول بأن الله استخدم في هذه الآية أو
غيرها لغة التعظيم مردود من واقع الكتاب المقدس والتاريخ القديم.
v الإعلان الثالث: يوم سقط الإنسان
بعد
أن سقط آدم وحواء بعصيانهما الله بالأكل من شجرة معرفة الخير والشر نقرأ الكلمات: «وَقَالَ الرَّبُّ
الإِلهُ: هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفاً الْخَيْرَ
وَالشَّرَّ»([10])،
وهنا تظهر الوحدانية في ثالوث إذ تؤكد الكلمات وقال الرب الإله وحدانية الله،
وتعلن الكلمات قد صار كواحد منا الثالوث في الوحدانية وإلاّ فما معنى قول الله هوذا
الإنسان قد صار كواحد منا؟ ومع من كان الله يتحدث بهذا الحديث؟
v الإعلان الرابع: يوم بدأ الناس في بناء برج بابل
يرينا
سفر التكوين صورة للبشرية بعد الطوفان تتحدث بلسان واحد ولغة واحدة، وتفكر في
الاستقلال عن إله السماء، وتعلن التمرد على أمره الإلهي «أَثْمِرُوا
وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ»([11])،
وعن هذا نقرأ الكلمات: وَقَالُوا: «هَلُمَّ نَبْنِ
لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجاً رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا
اسْماً لِئَلا نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ. فَنَزَلَ الرَّبُّ
لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ
يَبْنُونَهُمَا. وَقَالَ الرَّبُّ: هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ
لِجَمِيعِهِمْ، وَهذَا ابتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالآنَ لا يَمْتَنِعُ
عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ
هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لا يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ»([12]).
هنا
أيضاً نجد الوحدانية في ثالوث فالوحدانية تظهر في الكلمات وقال الرب والثالوث يظهر
في الكلمات هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم، ونكرر السؤال مع من كان الله يتكلم إذا
لم يكن جامعاً في وحدانيته؟
v الإعلان الخامس: قصة بلعام وبالاق
«فبعد أن بنى بالاق
لبلعام سبعة مذابح وهيأ له سبعة ثيران وسبعة كباش نقرأ الكلمات "فَقَالَ
بَلْعَامُ لِبَالاقَ: قِفْ عِنْدَ مُحْرَقَتِكَ، فَأَنْطَلِقَ أَنَا لَعَلَّ
الرَّبَّ يُوافِي لِلِقَائِي، فَمَهْمَا أَرَانِي أُخْبِرْكَ بِهِ. ثُمَّ
انْطَلَقَ إِلَى رَابِيَةٍ. فَوَافَى اللّهُ بَلْعَامَ»([13]).
ولم
يلعن بلعام بني إسرائيل كما أراد بالاق بل باركهم، وهنا نقرأ الكلمات «فَقَالَ بَالاقُ
لِبَلْعَامَ: مَاذَا فَعَلْتَ بِي؟ لِتَشْتِمَ أَعْدَائِي أَخَذْتُكَ، وَهُوَذَا
أَنْتَ قَدْ بَارَكْتَهُمْ. فَأَجَابَ: أَمَا الذِي يَضَعُهُ الرَّبُّ فِي فَمِي
أَحْتَرِصُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ بَالاقُ: هَلُمَّ مَعِي إِلَى
مَكَانٍ آخَرَ تَرَاهُ مِنْهُ. إِنَّمَا تَرَى أَقْصَاءَهُ فَقَطْ، وَكُلَّهُ لا
تَرَى. فَالْعَنْهُ لِي مِنْ هُنَاكَ . فَأَخَذَهُ إِلَى حَقْلِ صُوفِيمَ إِلَى
رَأْسِ الْفِسْجَةِ، وَبَنَى سَبْعَةَ مَذَابِحَ وَأَصْعَدَ ثَوْراً وَكَبْشاً
عَلَى كُلِّ مَذْبَحٍ. فَقَالَ لِبَالاقَ: قِفْ هُنَا عِنْدَ مُحْرَقَتِكَ وَأَنَا
أُوافِي هُنَاكَ. فَوَافَى الرَّبُّ بَلْعَامَ وَوَضَعَ كَلَاماً فِي فَمِهِ
وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى بَالَاقَ وَتَكَلَّمْ هكَذَا»([14]).
وفي
هذه المرة الثانية لم يلعن بلعام الشعب وتضايق بالاق «فَقَالَ بَالاقُ
لِبَلْعَامَ: لا تَلْعَنْهُ لَعْنَةً وَلا تُبَارِكْهُ بَرَكَةً، فَقَالَ
بَلْعَامُ لِبَالاقَ: ابْنِ لِي ههُنَا سَبْعَةَ مَذَابِحَ وَهَيِّئْ لِي ههُنَا
سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ. فَفَعَلَ بَالاقُ كَمَا قَالَ بَلْعَامُ،
وَأَصْعَدَ ثَوْراً وَكَبْشاً عَلَى كُلِّ مَذْبَحٍ. وَرَفَعَ بَلْعَامُ
عَيْنَيْهِ وَرَأَى إِسْرَائِيلَ حَالاًّ حَسَبَ أَسْبَاطِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ
رُوحُ اللّهِ»([15]). ويثبت
النص الإلهي ثلاث تسميات للإله الواحد جاءت في هذه العبارات:
«فَوَافَى اللّهُ
بَلْعَامَ»([16])، «فَوَافَى الرَّبُّ
بَلْعَامَ»([17])، «فَكَانَ عَلَيْهِ
رُوحُ اللّهِ»([18]).
ويسأل
المرء أمام هذا الوضوح: ما معنى هذه التسميات الثلاث للإله الواحد؟ أليس الله هو
الرب وهو روح الله؟
ونجيب
أن النص يُظهر الثالوث بصورة أكيدة، ونحن نرى فيه - في نور العهد الجديد - أن الله
هو الآب وأن الرب هو المسيح، وأن روح الله هو الروح القدس، وهكذا يظهر الله في
وحدانيته الجامعة في هذه القصة من سفر العدد.
v الإعلان السادس: في سفر إشعياء
وأول
إعلان جاء في هذا السفر نراه في رؤيا إشعياء المجيدة، التي رأى فيها السيد
جالساً على كرسي عال ومرتفع واعترف أمام قداسة الله بنجاسة شفتيه، ونرى واحداً من
السرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح، قد جاء ومس بها فم إشعياء وقال «إِنَّ هَذِهِ قَدْ
مَسَّتْ شَفَتَيْكَ، فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ»([19])، وبعد
أن تطهر إشعياء من خطيته، وأصبح إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد سجل هذه الكلمات
المنيرة: «ثُمَّ سَمِعْتُ
صَوْتَ السَّيِّدِ: مَنْ أُرْسِلُ، وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟»([20]).
ويرى
القارئ أن وحدانية الله تظهر في كلماته التي جاءت بصيغة المفرد من أرسل، وأن
ثالوثه العظيم يظهر في صيغة الجمع من يذهب من أجلنا؟
v الإعلان السابع: في سفر إشعياء
مرة
ثانية وبصورة باهرة في سفر إشعياء: وهذا كلام الله في هذه الآيات الباهرات: «اِسْمَعْ لِي يَا
يَعْقُوبُ. وَإِسْرَائِيلُ الذِي دَعَوْتُهُ. أَنَا هُوَ. أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا
الآخِرُ، وَيَدِي أَسَّسَتِ الأَرْضَ وَيَمِينِي نَشَرَتِ السَّمَاوَاتِ. أَنَا
أَدْعُوهُنَّ فَيَقِفْنَ مَعاً. اِجْتَمِعُوا كُلُّكُمْ وَاسْمَعُوا. مَنْ
مِنْهُمْ أَخْبَرَ بِهَذِهِ؟ قَدْ أَحَبَّهُ الرَّبُّ. يَصْنَعُ مَسَرَّتَهُ
بِبَابِلَ، وَيَكُونُ ذِرَاعُهُ عَلَى الْكِلْدَانِيِّينَ. أَنَا أَنَا
تَكَلَّمْتُ وَدَعَوْتُهُ. أَتَيْتُ بِهِ فَيَنْجَحُ طَرِيقُهُ»([21]).
عجيب
هذا الإعلان الإلهي عن وحدانية الله الجامعة ففيه نجد الخالق يتكلم قائلاً: «أَنَا هُوَ. أَنَا
الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ، وَيَدِي أَسَّسَتِ الأَرْضَ وَيَمِينِي نَشَرَتِ
السَّمَاوَاتِ»، وهذه
الكلمات تنطبق تماماً على الرب يسوع المسيح الذي قال عنه يوحنا الرسول: «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ
كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ»([22]).
وقال
عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «وَأَنْتَ يَا رَبُّ
فِي الْبَدْءِ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ»([23]). فالمسيح
هو الخالق الذي يده أسست الأرض ويمينه نشرت السموات. ثم
يقول هذا الخالق العظيم أنا هو وهي ذات الكلمات التي قالها المسيح لليهود «إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ
فِي خَطَايَاكُمْ، لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ
فِي خَطَايَاكُمْ. مَتَى رَفَعْتُمُ ابنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ
أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي، بَلْ أَتَكَلَّمُ
بِهذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي. وَالذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ
يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي، لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ»([24]).
v
ويتابع
هذا الخالق العظيم حديثه قائلاً: «أَنَا الأَوَّلُ
وَأَنَا الآخِرُ» وهي ذات الكلمات التي
قالها المسيح ليوحنا الرسول في جزيرة بطمس «أَنَا هُوَ الأَلِفُ
وَاليَاءُ. الأَوَّلُ وَالآخِرُ»([25]). ثم
يقول منذ وجوده: «أنا هناك» وهذا
دليل ساطع على أزلية المسيح، الذي عندما سأله اليهود «ليس لك خمسون سنة بعد،
أفرأيت إبراهيم؟ أجابهم قائلاً: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن»([26])،
وعبارة أنا كائن تؤكد أزليته.
v
الإعلان الثامن: في سفر إشعياء
تكلّم السيد المسيح، المخلص المنتظر الموعود، خلال إشعياء
النبي قبل تجسده وولادته من مريم العذراء بحوالي سبعمائة سنة قائلا
«تَقَدَّمُوا إِلَيَّ (ألإبن). اسْمَعُوا هَذَا.
لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنَ الْبَدْءِ فِي الْخَفَاءِ. مُنْذُ وُجُودِهِ أَنَا هُنَاكَ،
وَالآنَ السَّيِّدُ الرَّبُّ(ألآب) أَرْسَلَنِي
وَرُوحُهُ (ألروح القدس)»([27]).
وأخيراً
يتكلم هذا الخالق الأزلي قائلاً: والآن السيد الرب أرسلني وروحه ومن يكون السيد
الرب الذي أرسله؟ إنه
يتحدث عن الله الآب كما قال في إنجيل يوحنا «لأَنِّي لَسْتُ
وَحْدِي، بَلْ أَنَا وَالآبُ الذِي أَرْسَلَنِي»([28]).
وعن
من يقول وروحه إنه يقيناً يتحدث عن الروح القدس الذي اشترك في إرسالية المسيح.
v
الإعلان التاسع: في سفر إشعياء
كما
نقرأ في سفر إشعياء «رُوحُ (الروح القدس) السَّيِّدِ الرَّبِّ (ألآب) عَلَيَّ (ألإبن)، لأَنَّ الرَّبَّ
مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي
الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ
بِالإِطْلاقِ. لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ»([29])،
وقد أكد الرب أن هذه الكلمات تمت في شخصه حين جاء إلى العالم ولذا نقرأ في إنجيل
لوقا: «وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ
حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ، فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ
إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الذِي
كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ: رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ
الْمَسَاكِينَ...فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذا
الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ»([30]).
في
هذا النص يظهر الثالوث العظيم في وضوح وجلاء فنرى: الآب مرسلاً
للابن لإتمام مقاصده، الابن متكلماً عن إرسال الآب والروح
القدس له، الروح القدس مشتركاً في هذه الإرسالية
العظمى.
وقد
ذكر كاتب الرسالة إلى العبرانيين أن المسيح قدم نفسه لله بالروح القدس فقال: «فَكَمْ بِالْحَرِيِّ
يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّهِ بِلا
عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللّهَ
الْحَيَّ!»([31]). والآية
الكتابية تؤكد أزلية الروح القدس إذ تذكر أنه روح أزلي.
v الإعلان العاشر: سفر المزامير
قرر
القرآن أن سفر المزامير وهو الذي يسميه القرآن الزبور موحى به من الله، «...وَآتَيْنَا
دَاوُدَ زَبُوراً»([32]). «وَلَقَدْ كَتَبْنَا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ»([33]). والنص القرآني يشير إلى ما جاء
في مزمور 37: «أَمَّا الْوُدَعَاءُ
فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلامَةِ»([34]).
سفر
المزامير وهو من أسفار العهد القديم، وما زال كما هو بين يدي اليهود بغير عبث أو
تحريف، تماماً كما كان في أيام محمد، يعلن هذا السفر الجليل بكلمات صريحة لا تحتاج
إلى تأويل وحدانية الله الجامعة فيقول: «لِمَاذَا ارْتَجَّتِ
الأُمَمُ وَتَفَكَّرَ الشُّعُوبُ فِي الْبَاطِلِ؟ قَامَ مُلُوكُ الأَرْضِ
وَتَآمَرَ الرُّؤَسَاءُ مَعاً عَلى الرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ، قَائِلِينَ:
لِنَقْطَعْ قُيُودَهُمَا، وَلْنَطْرَحْ عَنَّا رُبُطَهُمَا،...إِنِّي أُخْبِرُ
مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ. قَالَ لِي: أَنْتَ ابنِي. أَنَا الْيَوْمَ
وَلَدْتُكَ. اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ وَأَقَاصِيَ
الأَرْضِ مُلْكاً لَكَ. تُحَطِّمُهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ. مِثْلَ إِنَاءِ
خَّزَافٍ تُكَسِّرُهُمْ، فَالآنَ يَا أَيُّهَا
الْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ الأَرْضِ. اعْبُدُوا الرَّبَّ
بِخَوْفٍ وَاهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا الابْنَ لِئَلا يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا
مِنَ الطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ
الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ»([35]).
هذا
المزمور كان وما زال في سفر المزامير، وهو كما قلنا موجود في كتاب العهد القديم،
وفي كتاب العهد القديم نقرأ الكلمات: «اِسْمَعْ يَا
إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ»([36]). ومع هذا التوكيد لوحدانية الله،
يسجل العهد القديم هذا المزمور، فيصور لنا تفكير الشعوب في الباطل، وتآمرهم على الرب (الآب) وعلى مسيحه (يسوع المسيح)، ليتحرروا من قيودهما وربطهما.
ثم
يعلن المزمور قضاء الرب من جهة ابنه الأزلي يسوع المسيح، فيقول إني أخبر من جهة
قضاء الرب،
قال لي أنت ابني،
فالمسيح هو ابن الله الأزلي، والآب يخاطبه بهذا الاعتبار قائلاً له أنت ابني، ثم
يقول أنا اليوم ولدتك، وهذه الولادة حدثت في
الزمان،
حدثت حين تجسد المسيح من مريم العذراء، وكان هذا التجسد في خطة الله قبل تأسيس العالم ومشيئته لفداء البشرية.
والقرآن
يقرر في سورة مريم أن ميلاد المسيح من عذراء كان قضاء إلهياً، كان أمراً مقضياً
فيقول: «وَاذْكُرْ فِي
الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا
فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ
لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً (مطهراً من الخطية)، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ
عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ
أَمْراً مَقْضِيّاً»([37]).
وُلد
المسيح من مريم العذراء مطهراً من الخطية، وولادة يسوع المسيح من عذراء كانت أمراً
مقضياً، كانت بقضاء إلهي تماماً كما قال كاتب المزمور «إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ
جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ. قَالَ لِي: أَنْتَ ابنِي (منذ الأزل). أَنَا الْيَوْمَ
وَلَدْتُكَ (في الزمان)»([38]). ولادة
المسيح من مريم العذراء كانت ولادة معجزية، لا دخل لها في التناسل الطبيعي،
فالتناسل الطبيعي عمل من أعمال الجسد وحاشا لله أن يتناسل، لأن الله روح يملأ
بلاهوته السموات والأرض ولا يُحد، وبهذا المفهوم يمكن أن نقول عنه تبارك وتعالى ما
قاله القرآن في سورة الإخلاص: «قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ (أي واحد اللهُ) الصَّمَدُ (مقصود كل حي لإمداده بما يحتاجه وجوده وبقاؤه)
لَمْ يَلِدُ وَلَمَ يُولَدُ (عن طريق التناسل الجسدي) وَلَمُ يَكُنُ لَهُ كُفُواً
أَحَدٌ (أي ليس له مثيل)»([39]).
لكن المسيح
سُمِّي ابن الله في الكتاب المقدس، وقال له الله تبارك اسمه في المزمور الثاني وفي
أماكن أخرى أنت ابني لأن بنويته أزلية في وحدانية الله الجامعة.
ونعود
الآن إلى المزمور الثاني لنتأمل كلماته الختامية ومكان المسيح ابن الله فيه: «فَالآنَ يَا أَيُّهَا
الْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ الأَرْضِ. اعْبُدُوا الرَّبَّ
بِخَوْفٍ وَاهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا الابْنَ لِئَلا يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا
مِنَ الطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ
الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ»([40]). هذا نداء صريح من الروح القدس
يوجهه إلى الملوك وقضاة الأرض الذين قاموا ليتآمروا على الرب وعلى مسيحه، أن
يتعقلوا، ويتأدبوا، ويُقَبِّلوا الابن، وفي القبلة معنى القبول الحبي، فهو يدعوهم
إلى قبول سيادة الابن بحب على حياتهم، ثم ينذرهم من مغبة غضبه لئلا يغضب فتبيدوا
من الطريق ويعلن البركة العظمى للمتكلين على هذا الابن المبارك طوبى لجميع
المتكلين عليه.
وفي
سفر رؤيا يوحنا نرى منظر ابن الله من الملوك والصعاليك وهم في رعب من غضبه العظيم
عند مجيئه الثاني: «وَمُلُوكُ الأَرْضِ
وَالعُظَمَاءُ وَالأَغْنِيَاءُ وَالأُمَرَاءُ وَالأَقْوِيَاءُ وَكُلُّ عَبْدٍ
وَكُلُّ حُرٍّ، أَخْفَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَغَايِرِ وَفِي صُخُورِ
الْجِبَالِ، وَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ وَالصُّخُورِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا
وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ الْحَمَلِ،
لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبِهِ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ؟»([41]).
وتـؤكد
الصلاة التي رفعها المؤمنون بالمسيح في أورشليم، وسجلها سفر أعمال الرسل أن
المزمور الثاني هو نبوة عن المسيح ابن الله تمت جزئياً أيام الكنيسة الأولى وستتم
كلياً عندما يأتي المسيح ثانية. قال المؤمنون في أورشليم
في صلاتهم: «أَيُّهَا السَّيِّدُ،
أَنْتَ هُوَ الإِلهُ الصَّانِعُ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالبَحْرَ وَكُلَّ مَا
فِيهَا، الْقَائِلُ بِفَمِ دَاوُدَ فَتَاكَ: لِمَاذَا ارْتَجَّتِ الأُمَمُ
وَتَفَكَّرَ الشُّعُوبُ بِالْبَاطِلِ؟ قَامَتْ مُلُوكُ الأَرْضِ، وَاجْتَمَعَ
الرُّؤَسَاءُ مَعاً عَلَى الرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ. لأَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ
اجْتَمَعَ عَلَى فَتَاكَ الْقُدُّوسِ يَسُوعَ، الَّذِي مَسَحْتَهُ، هِيرُودُسُ
وَبِيلاطُسُ الْبُنْطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وَشُعُوبِ إِسْرَائِيلَ، لِيَفْعَلُوا كُلَّ
مَا سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ وَمَشُورَتُكَ أَنْ يَكُونَ»([42]).
فالمزمور
الثاني هو كلام الله ذاته، أوحى به إلى داود النبي، وهو يؤكد أن المسيح هو ابن
الله، ومع أن اليهود لا يؤمنون بالمسيح الذي جاء في ملء الزمان وصُلب على الصليب،
إلاّ أن هذا المزمور موجود في كتابهم مما يؤكد تأكيداً قاطعاً أن الكتاب المقدس لم
تمتد إليه يد التحريف.
v الإعلان الحادي عشر: في سفر المزامير
في
العهد القديم ففي المزمور المئة والعاشر يقول داود النبي: «قَالَ الرَّبُّ
لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً
لِقَدَمَيْكَ»([43]). ونقول مكررين أن وجود هذه الآية
في هذا المزمور تؤكد تأكيداً باتاً أن الكتاب المقدس لم يحرفه أو يعبث بمحتوياته
أحد، لأنه لو أن اليهود حرفوا العهد القديم لكانت أولى الآيات التي حذفوها هي هذه
الآية، فداود النبي، وهو يهودي يؤمن بوحدانية الله، يكتب بوحي الروح القدس فيقول
قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. كان داود النبي ملكاً
ثيوقراطياً، لا تعلوه سلطة أرضية فعن من يقول قال الرب لربي ومن هو ذاك الذي يدعوه
داود الملك ربي؟
الجواب
نجده في حوار المسيح مع الفريسيين: «وَفِيمَا كَانَ
الْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ سَأَلَهُمْ يَسُوعُ: مَاذَا تَظُنُّونَ فِي
الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟ قَالُوا لَهُ: ابْنُ دَاوُدَ. قَالَ لَهُمْ:
فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبّاً قَائِلاً: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي
اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ فَإِنْ
كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً، فَكَيْفَ يَكُونُ ابنَهُ؟»([44]).
هذه
الآيات المضيئة تعلن وحدانية الله الجامعة، وتقرر أن المسيح ابن الله «قد صَارَ مِنْ نَسْلِ
دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ»([45])،
ومع أنه صار من نسل داود، لكنه أصل داود، لأنه خالق داود، وقد قال المسيح عن نفسه: «أَنَا أَصْلُ
وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ»([46]). ولأنّ
المسيح هو ابن الله الأزلي، يدعوه داود بالروح القدس ربّي، «قال الرب (الآب
الأزلي) لربي (الابن الأزلي)،
والكلام نطق به داود النبي بالروح الأزلي».
v الإعلان الثاني عشر: في إشعياء
أخيراً أعلان تمجّد ملائكة الله في ملكوت السموات بترتيل
ترنيمة الثلاث تقديسات: «قُدُّوسٌ (الآب الأزلي) قُدُّوسٌ (الابن
الأزلي)، قُدُّوسٌ (الروح القدس الأزلي)
رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ»([47]).
هذه
هي إعلانات كتاب العهد القديم عن الله، لم يبتدعها اليهود أو المسيحيون، بل أوحى
بها الروح القدس إلى أنبياء الله، والمسيحيون يقبلون إعلان
الله عن ذاته بكل إيمان ويقين، ومن يتهم المسيحيين بالشرك جاهل، لا يعرف المسيحيّة
الحقيقية، ولا ما يقوله الكتاب المقدس الكريم - كتاب المسيحيين - عن الله الواحد
في ثالوثه العظيم. ونرى لزامًا علينا ونحن
في ختام الحديث عن إعلان الله عن ذاته في العهد القديم:
v الإعلان النهاية:
أن
نذكر إعلان
اللغة العبرية الذي يسكت هؤلاء الجهلاء نقول:
هنا
كلمتين وردتا باللغة العبرية في كتاب العهد القديم للتعبير عن الوحدة.
الكلمة الأولى هي
كلمة يَحَد وهي تعني الواحد البحت،
الكلمة الثانية هي كلمة احَد وهي
تعني الوحدانية الجامعة،
ففي
سفر التكوين نقرأ: «وَكَانَ مَسَاءٌ
وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً وَاحِداً»([48]). وكلمة واحداً المذكورة في
الآية هي كلمة احَد وهي تعني أن المساء والصباح وهما متميزان لكنهما يكونان يوماً
واحداً، فكلمة احَد لا تعني هنا الواحد البحت، بل تعني الوحدانية الجامعة. وفي سفر
التكوين نقرأ أيضاً: «لِذلِكَ يَتْرُكُ
الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً
وَاحِداً»([49])، وكلمة واحداً هي هنا أيضاً كلمة
احَد وهي ترينا بصورة بارزة أنها تعني وحدانية جامعة، فالرجل والمرأة متميزان
الواحد عن الآخر لكنهما بالزواج يكوّنان وحدة جامعة.
أما
الواحد البحت يحَد فقد ذكر في سفر التكوين في هذه الكلمات: «فَقَالَ: خُذِ ابنَكَ
وَحِيدَكَ الذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا،
وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الذِي أَقُولُ لَكَ»([50]). وكلمة
وحيدك في العبرية في هذه الآية هي كلمة يحَد التي تعني الواحد البحت.. كان اسحق هو
الابن الوحيد الذي بقي مع إبراهيم بعد ذهاب إسماعيل.
جاءت
كلمة واحد في العبرية احَد التي تعني الوحدانية الجامعة، ولعل
القرآن حين ذكر في سورة الإخلاص قل هو الله أحد استعار ذات اللفظ العبري احَد،
فالأرقام في العربية تبدأ بواحد وليس بأحد، وقد استعار القرآن لفظ التوراة وهي
كلمة عبرية، كما استعار كلمة الإنجيل وهي كلمة يونانية، وفي القرآن كلمات كثيرة
ليست عربية.
v
الأقانيم ووحدتهم في التوراة (العهد القديم).
(1) وجوده في إعلانات الله المتتابعة
وانجلاؤه بالتدريج. ففي سفر التكوين تلميحات لتعليم التثليث لا تُفهم جلياً إلا في
نور إعلاناتٍ جاءت بعدها، كورود اسم اللَّه «إلوهيم» بصيغة الجمع، والضمائر
التي تعود إليه في هذا السفر بصيغة الجمع كقوله «لنصنع الإنسان على صورتنا»
وأقوال أخرى مثله([52]). وهذا
وحده لا يثبت تعليم التثليث. ولكن إذا قارنّاه بآياتٍ أخرى متتابعة نرى أن في
اللاهوت ثلاثة أقانيم ويتضح لنا أن هذه الأقوال توافق تعليم الثالوث الأقدس
ومبنيّة عليه.
ونرى في أسفار الإنجيل الأولى تمييزاً
بين «يهوه» و«ملاك يهوه» وأن لهذا الملاك ألقاباً إلهية وعبادة إلهية، ومن
أسمائه أيضًا «الكلمة» و«الحكمة» و«ابن اللَّه». وأقنوميته ولاهوته
واضحان، لأنه «منذ القديم» و«منذ الأزل» و«الإله القدير» و«رب داود» و«الرب
برّنا» الذي سبق الوعد بولادته من عذراء، ويحمل خطايا كثيرين([53]).
2) قال موسى النبي سنة
1500ق.م. عن بدء الخليقة في سفر التكوين: «فِي البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض
خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه»([54]). فمن هاتين
الآيتين، يتضح لنا أن اثنين قد اشتركا في القيام بالخلق، هما «الله» و «روح الله»، فالأول خلق السموات والأرض، والثاني كان يرف على وجه
المياه، ليبعث الحياة فيها. و«روح الله»، وإن كان يبدو أنه غير «الله»، إلا أنه في الواقع ليس سوى الله في جوهره، وذلك لسببين:
( أ ) إن الله لا تركيب فيه.
(ب) إن الله هو وحده خالق السموات والأرض، وباعث
الحياة في كل الكائنات.
3) وقال
داود النبي سنة 1000ق.م.: «بكلمة الرب صُنعت السموات»([55])، وقال في موضع آخر مخاطباً المولى: «ترسل روحك فتُخلق»([56])، ومن هاتين
الآيتين يتضح أن اثنين قاما بالخلق: هما «كلمة الرب» و«روح الرب»، و«كلمة الرب» بمعني علم
الرب وقوته. وإن كانت تبدو أنها غير «روح الرب» إلا أنهما
في الواقع ليسا سوى الرب في جوهره، وذلك لنفس السببين السابق ذكرهم.
4) وخاطب
أجور، أحد حكماء إسرائيل الأتقياء صديقاً له سنة950 ق.م.
قائلا له بالوحي: «من ثبت جميع
أطراف الأرض ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت»([57]). وقد كانت
هذه الآية موضع جدال بين علماء اليهود زمناً طويلاً، لكنهم انتهوا بعد دراسة
التوراة دراسة دقيقة، إلى أنه يقصد بهذا «الابن»، المسيَّا أو
المسيح. ومعني «الابن» هنا، ليس هو المعني الحرفي، بل المعني الروحي الذي
يتفق مع روحانية الله وخصائصه الأخرى.
5) ما جاء بروح النبوَّة
في إشعياء النبي سنة700ق.م، وتحقق
على لسان المسيح بخصوص تجسّده:. «أنا هو أنا الأول وأنا الآخر...منذ
وجوده أنا هناك، والآن السيد الرب
أرسلني وروحه»([58]). ومن هذه الآية يتضح أيضا أن «الأول والآخر» قد أرسل بواسطة اثنين، هما «السيد الرب» و« روحه»، إن كان
يبدو أحدهما غير الآخر، إلا أنهما في الواقع كائن واحد، هو «الرب».
أدلة صحة
شهادة التوراة:
فضلاً عن أن
الآيات السابق ذكرها مسجلة بالوحي الإلهي في الكتاب المقدس، الأمر الذي لا يدع
مجالاً للشك في صدقها([59])، فهناك أدلة عقلية كثيرة تؤيد أيضا صدقها، نكتفي منها بما يأتي:
1. الذين كتبوا هذه الآيات، وهم موسى وداود وإشعياء، لم يكونوا من الوثنيين، بل من المؤمنين الذين يعتقدون
اعتقاد راسخاً بوحدانية الله وعدم وجود أي تركيب فيه، كما يتبين لنا من أقوالهم في
التوراة.
فموسى هو الذي سجّل قول الله عن نفسه: «أَنَا
الرَّبُّ إِلَهُكَ...لا
يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي»([60]).
وداود هو الذي قال: «قُلْتُ
لِلرَّبِّ: «أَنْتَ سَيِّدِي. خَيْرِي لا شَيْءَ غَيْرُكَ ....تَكْثُرُ
أَوْجَاعُهُمُ الَّذِينَ أَسْرَعُوا وَرَاءَ آخَرَ»([61]).
وبما أنهم بجانب هذه الأقوال، قد شهدوا في الآيات التي ذكرناها في ثالثاً
سابقا، ما يُستنج منه أن الله ليس أقنوماً واحداً بل أقانيم، إذن لا سبيل للظن
أنهم نقلوا هذه الآيات عن الوثنيين، بل من المؤكد أنهم نقلوها من الله رأساً،
كإعلان تفصيلي عن ذاته.
2. هذه الآيات ونظائرها، لا ترد في بعض أجزاء التوراة
دون البعض الآخر، بل ترِد في أجزائها بلا استثناء، وقد كُتبت في عصور متباينة ومتباعدة، وبواسطة أشخاص يختلف بعضهم عن بعض
الآخر في الثقافة والسن والنشأة والبيئة اختلافاً عظيماً، وهي لا ترد مصحوبة بأي
إشارة لإثبات صحتها، أو توجيه النظر إليها بصفة خاصة، بل ترِد في سياق الكلام
العادي دون أية إشارة من هذا النوع، إذن فلا مجال للظن بأنهم كتبوها إلا بوحي
الله، لأن وحيه واحد لجميع الأنبياء علي اختلاف عصورهم وظروفهم، ولأن الله لا يحتاج إلى برهان
بشري يُثبت صدقه، إذ أنه يحمل في ذاته طابع الصدق، الذي لا يأتيه الباطل من ناحية
ما.
3. أخيراً، لو كانت هذه
الآيات مدوَّنة في توراةٍ يحتفظ بها المسيحيون فحسب، لكان هناك مجال للطعن في
صدقها، بدعوى احتمال تأليف بعض المسيحيين لها، لتأييد عقيدة التثليث التي يؤمنون بها. لكن
التوراة التي يحتفظ بها المسيحيون والمدونة فيها هذه الآيات، هي بعينها التوراة
التي يحتفظ بها اليهود أنفسهم. لذلك فالطعن أو التشكك في صدق الآيات المذكورة، لا
يقوم على أساس.
v
شهادة الإنجيل (العهد الجديد) للأقانيم:
وجاء أيضاً في الإنجيل أن روح اللَّه هو
مصدر الحكمة والنظام وحياة الكون، وأنه يُلهم الأنبياء ويعطي القوة والحكمة
للرؤساء والقضاة ولشعب اللَّه، وأنه يعلّم ويختار ويحزن ويغتاظ. ومن كلام الرسل
يظهر أنه إله يستحق العبادة، وأنه يمنح بركات ثمينة. وقال المسيح عن الروح إنه
أقنوم معروف متميز إذ وعد تلاميذه أنه يرسله إليهم معزياً لينوب عنه، ويعلّمهم
ويقويهم، ويبيّن لهم أنه يجب عليهم أن يقبلوه ويطيعوه([63]). وهكذا
نرى أن إعلانات هذا السر التي كانت أولاً غير واضحة أخذت تنجلي تدريجياً حتى اتضحت
في الإنجيل، وصارت إيمان جميع المؤمنين.
هناك آيات
كثيرة في الإنجيل تدل على أن وحدانية الله هي وحدانية جامعة، أو بتعبير آخر: إن
الله ليس أقنوماً واحداً بل أقانيم، منها عل سبيل الذكر:
1. وقت معمودية المسيح:
فقد
خاطبه الآب وحل عليه الروح القدس مثل حمامة. وهذا يرينا الآب والابن والروح القدس
في وقتٍ واحدٍ معاً، «فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ (الابن) صَعِدَ لِلْوَقْتِ
مِنَ الْمَاءِ وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ فَرَأَى رُوحَ اللَّهِ
(الروح القدس) نَازِلاً مِثْلَ
حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ(الآب) قَائِلاً: «هَذَا
هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»([64]).
2. عطية المسيح لشعبه:
وفي
الليلة التي أُسلم فيها المسيح تحدث إلى الآب، ووعد التلاميذ أن يرسل لهم الروح
القدس([65]).
فأوضح بذلك أقنوميته كابنٍ للَّه، وألوهية كلٍ من الآب والابن والروح القدس.
«وَأَنَا (الابن)
أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى
الأَبَدِ رُوحُ الْحَقِّ (الروح
القدس) الَّذِي
لا يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لا يَرَاهُ وَلا يَعْرِفُهُ
وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ»([66]).
3. تأكيد العطية:
«ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللَّهُ رُوحَ ابْنِهِ
إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: «يَا أَبَا الآبُ»([67]).
4. – بركة العهد الجديد لشعب الرب:
«نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ،
وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ»([68]). وهي طلب نعمة المسيح من المسيح ومحبة
الآب من الآب وشركة الروح القدس من الروح القدس. فكلمات هذه البركة تتضمن الإقرار
بأقنومية كلٍ من الآب والابن والروح القدس وألوهيتهم([69]).
5. – السلام مع الله:
6. – وصية الرسول
يهوذا للكنيسة:
«وأما انتم
أيها الأحباء فابنوا أنفسكم على إيمانكم الأقدس مصلين في الروح القدس. واحفظوا
أنفسكم في محبة الله منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية»([71]).
7. - وفي نهاية خدمة الرب يسوع المسيح أرسل تلاميذه
قائلاً: «فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ
بِاسْمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ»([72]). فالعماد في
المسيحية، هو خدمة دينية، تمارس للدلالة على موت المؤمن بالمسيح عن الخطية،
وقيامته بحياة روحية جديدة يحيا بها لمجد الله دون سواه. بقراءة هذه الآية قراءة
جيدة يتبين منها الآتي:
إنها لا
تقول بأسماء «الآب والابن والروح القدس»، بل «باسم الآب
والابن والروح القدس». وكلمة «باسم» المفردة،
تدل بكل وضوح على أنه لا يقصد بالأقانيم ثلاث كائنات، بل كائن واحد، هو بذاته
«الآب»، ناطق بكلمته
وهو «الابن»، وحي بروحه
وهو «الروح القدس».
ورُبَّ قائل يقول: إن استعمال كلمة «اسم» ليس دليلاً قاطعاً علي أن «الآب والابن والروح القدس» كائن واحد، فمن المحتمل أن يكونوا ثلاثة كائنات
منفصلة، وكل منهم مضاف على حد إلى كلمة «اسم»، ولكن لا مجال لمثل هذا الاعتراض، إذا عرفنا الحقيقة
اللغوية لحرف الجر اليوناني، والموضوع بين كلمتي «الآب» و«الابن»، فهو دليل لغوي على أنه يُقصد بالأقانيم الثلاثة، كائن
واحد، لأنهم لو كانوا غير ذلك لاستعمال بدلاً من حرف العطف المذكور، العلامة التي
تدعي في اللغة «الفاصلة» «،».
لزيادة الإيضاح نقول:
إذا أريد التعبير عن مجيء ثلاثة أشخص
أحدهم محام، وثانيهم طبيب، وثالثهم مهندس، فإنه بحسب قواعد اللغة اليونانية يُقال
«جاء محام، طبيب ومهندس» بوضع فاصلة بين الاسمين الأول والثاني، وحرف عطف
بين الاسمين الثاني والثالث. أما إذا أريد التعبير عن مجيء شخص واحد، هو محام
وطبيب ومهندس في نفس الوقت، فإنه يُقال: «جاء محام وطبيب ومهندس»، بـوضع حـرف
عطف بين كل من الاسمين الأول والثاني، والاسمين الثاني والثالث. وهذه هي نفس
الصيغة المستعملة في الآية «باسم الآب والابن والروح القدس»، الأمر الذي
يدل على أنه يقصد بهم كائن واحد، وليس سواه. وهذه الأدلة ليست الأساس الوحيد
لإيمان الكنيسة بالتثليث، لأنه مؤسس على الخصوص على ما يعلّمه الإنجيل:
(أ) في وحدانية اللَّه.
(ب) في أقنومية الآب
والابن والروح القدس وألوهية كل منهم. وخلاصة ما حصَّلته الكنيسة من تعليم الكتاب
هو وجود إلهٍ واحد في جوهر واحد وثلاثة أقانيم متساوين في المجد، ولكل منهم صفات
اللاهوت.
إن المراد
من «الآب والابن والروح القدس» كائن واحد
فحسب، وعلى المعترضين الذين يعتقدون أن «الآب» هو وحده
الله، التسليم بأن « الابن والروح القدس» واحد معه في الجوهر أو الذاتية، وبالتالي أن «الآب والابن والروح القدس» هو الله.
يتضح لنا من الغرض الروحي من العماد وهو الخضوع المطلق والتكريس الكامل، وبما
أن هذا لا يكون إلا لله، ولله وحده، لذلك لا جدال في أن «الآب والابن والروح القدس»، الذين نعتمد باسمهم، هم الله.
هل يلزم رفض تعليم مُعلَنٍ من
اللَّه لأننا نعجز عن إدراكه؟
لا، لأن عقولنا محدودة، عاجزة بقدر ما
عندنا الآن من النور عن إدراك الأسرار الدينية في طبيعة اللَّه. ولذلك يعلن اللَّه
لنا في كتابه
العزيز
بوحي
الروح
القدس
عن
شخصه
الكريم
ما
لا
يمكن
أن
ندركه
من
أنفسنا
بقوة
عقولنا
القاصرة.
وليس
في
هذا
الإعلان شيء ضد
العقل،
ولكنه
يسمو
على
العقل،
فينير
الروح
القدس
العقل والقلب ليدرك من الإعلان الإلهي ما يعجز عن إدراكه بالعقل البشري.
وفي الإعلانات الإلهية تعاليم أخرى غير
التثليث، كالتجسد والكفارة وحلول الروح القدس فينا وتجديده إيانا وتقديسنا وقيامة
الأجساد والحياة الأبدية، وهي أسرارٌ يعجز العقل البشري عن فهمها، لا لسموّها في
ذاتها فقط، بل لأن اللَّه جعلها في علمه وحده، واللغة البشرية قاصرة عن إيضاح
أسرارها. ولذلك لا يصح أن نرفضها بسبب عدم إدراك كنهها.
ولم ينفِ كتَبة الأسفار المقدسة أن في
إعلاناتهم وتعاليمهم أسراراً غامضة لا تُدرك، بل أثبتوا ذلك، فقال موسى:
«السرائر للرب إلهنا والمعلَنات لنا ولبنينا»، وقال بولس: «لأَنَّنَا
نَعْلَمُ بَعْضَ الْعِلْمِ وَنَتَنَبَّأُ بَعْضَ التَّنَبُّؤِ» و«فَإِنَّنَا
نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْزٍ، الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ». وقال
بطرس إن في رسائل بولس أشياء عسرة الفهم يحرّفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي
الكتب أيضاً لهلاك أنفسهم. «ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء!
فَالإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لا يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللَّهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ
جَهَالَةٌ وَلا يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ
رُوحِيّاً». ولا شك أن قبول هذه الأسرار الدينية يستلزم روح التواضع، طاعةً
لقول الرسول «إننا نهدم ظُنُوناً وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ
اللَّهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ
فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ». ولذلك كان استئصال الأسرار من الإنجيل
كفراً.
هـذه
الحقائق أعلى من العقل ومع ذلك نقبلها بثقة وفرح لأنها إعلان الله الذي يحبنا ولا
يمكن أن يخدعنا، أيضاً إن كنت تخضع الله لمفاهيمك البشرية فإنك تحاول المستحيل
لأنك محدود والله غير محدود. يقال إن القديس أغسطينوس كان يسير على شاطئ البحر
يوماً وهو مشغول بهذه الفكرة: كيف أن الله واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد، عندما
رأى طفلاً يحفر في الرمل حفرة ثم يملأها من البحر بواسطة دلو صغير والحفرة لا تمتلئ، فسأل الطفل «ماذا تريد أن تفعل؟» فقال «أريد أن أنقل هذا البحر الكبير ليكون لي أنا في حفرتي». فقال
القديس أغسطينوس لنفسه: «هذا عين ما أفعله الآن. إني أحاول أن أضع الله غير المحدود في حفرة عقلي
المحدود».
v
مشكلتين في التفسير والهرطقات
وهنا وجدت الكنيسة نفسها أمام مسألتين
أو مشكلتين في التفسير:
1- المشكلة الأولى عقلانية،
فلم يستطع البعض أن يُعبّروا عن ثلاثة
أقانيم أو ثلاثة أشخاص فتمسكوا بالوحدانية المطلقة وحاولوا حل المشكلة العقلانية،
فاعتبروا المسيح كائن مخلوق، فاعتبره آريوس أعظم المخلوقات، فانحرف لاهوتياً لأنه
لم يقل إن المسيح جوهر واحد مع الآب أو مساوٍ له، فلا يقدر إنسان أن يقول يسوع رب
إلا بالروح القدس([73])، وتبع
نفس الفكر آخرون مثل لوسيان وغيره وهو نفس الفكر الحالي لمحمد مجدي مرجان، في كتاب »الله واحد أم ثالوث«
2- والمشكلة الناتجة عن الاتجاه
الأخلاقي:
رأى البعض أن المسيح هو النموذج والمثال
الذي ينبغي على كل مؤمن أن يقتفي أثره، فطبقوا ذلك على أن المسيح ترك لنا مثالاً
لنتبعه (مع أن المقصود هنا هو أن المسيح قد ترك لنا مثالاً في احتمال الألم
والتجربة)، وأكدوا فكرهم بما قاله الرسول بولس: »تمثلوا بي كما أنا بالمسيح«، ولا يجب القول بأننا يجب أن نحتذي أثر
الله، فوجدوا إنه ليتحدثوا عن المسيح كمثال أو نموذج يُحتذى يجب أن ننظر إليه
باعتباره إنساناً فقط، وظهرت الفكرة بطرق مختلفة في الحديث عن طبيعة المسيح
وقابليتها للخطية مع أن الكتب المقدسة تخبرنا أنه بلا خطية. (وفي القرن الثامن عشر
في اسكتلندا كان هذا الموضوع هو أهم من يشغل العقول المفكرة من قادة الفلسفة الذين
نادوا بذلك الاتجاه، ولكن شكراً لله فقد شاهد ذلك القرن انفصال الفلسفة عن
اللاهوت فالفلسفة تساعد على الشرح، ولكنها لا تفسر كل الأمور اللاهوتية).
ومنذ البداية كانت هناك محاولتان لحل المشكلتين
العقلانية والأخلاقية:
1- الحل الأول نادى به آريوس فاعتبر
المسيح مخلوقاً والروح القدس مخلوقاً، فرفضت الكنيسة هذا
الرأي في مجمعها المسكوني الأول في نيقية 325م. وإن كان هذا الفكر ظل في رأي
سوسينوس.
2- الحل الثاني نادى به سابليوس في
روما في أوائل القرن السادس عشر، وقال إن العبارات الآب والابن والروح
القدس ما هي إلا أسماء للإله الواحد وقد قبل هذا الفكر البابا (كالستس). وخطأ
هذا الفكر هو تتابع أدوار الله وليس تزامنها، فلا تكون قائمة في نفس الوقت
واستخدام فكرة قناع الممثل المتعدد الأدوار والذي لا يقدر أن يقوم بدوريْن في وقت
واحد.
وعانت الكنيسة من العديد من الهرطقات،
ولكن كانت الفائدة هي صياغة العقيدة حتى لا ينحرف آخرون. ولعلاج هذه الهرطقات
احتاجت الكنيسة لمفردات جديدة مثل كلمة أقنوم وكلمة شخص للتعبير عن وحدانية الله
الجامعة المثلثة الأقانيم.
v كلمة
شخص:
وهي مفهومه في العربية، وفي الإنجليزية
Person من أصل لاتيني، ولكن تطور معناها ومفهومها بتطور علم النفس،
ومنذ البداية رفضتها الكنيسة لأن سابليوس استخدمها بمعنى قناع (وهرطقة عدم
التزامن).
كلمة أقنوم: وقد
فُضل استخدامها عن كلمة (برسون)، وكلمة أقنوم سريانية الأصل وهي في اليونانية
(هتوستيس)، ثم جاءت محاولة تفسير ما هو الأقنوم والبعض قال ممكن يكون فعل من
كلمة وتنطق (إنرجيا) وهي كلمة الطاقة في الإنجليزية (Energy)، ولكن الترجمة الأفضل (Activity)، وإن كان هذا الفكر قد رفضته الكنيسة
الخلقدونية. (التي تؤمن بالطبيعتين...أقنوم واحد)([74]).
والبعض قال إنه مشيئة واحدة وطبيعتين
متميزتين والبعض قال بذلك نفهم الطبيعة بالمشيئة. واعتقد البعض بمشيئة واحدة وسمي
هؤلاء منوفوسيين من Monophothelites
أي المشيئة الواحدة، وهذا هو فكر الكنيسة
المارونية التي عادت فانضمت للكنيسة
الكاثوليكية وقالت بالمشيئتين، ولكن الكنيسة في 681م في مجمعها المسكوني السادس
رفضت هذا التفكير فهو لا يتناسب مع صلاة يوحنا 17 عندما يخاطب المسيح الله الآب »لتكن لا إرادتي بل إرادتك«، فهنا يتضح
الإرادتان والمشيئتان.
وإن كان من الصعب تعريف كلمة أقنوم
(الابن حامل ذات جوهر الآب وطبيعته) فقد بقي استخدامها ليومنا هذا لتُعبِّر عن سر
التجسد، فأتى لنا أن نفهم طبيعة الله ونشرحها، فعظيم هو سرُّ التقوى الله ظهر في
الجسد([75]).
واستخدمت الكنيسة كلمة جوهر
للتعبير عن أن المسيح الابن والآب والروح القدس جوهر واحد، ولعل حيرتنا في
تعريف كلمة أقنوم تجعلنا نرجع لقول مارتن لوثر في القرن السادس عشر »لا شأن لنا بما فوقنا« ،أما كالفن فيقول
لا أستطيع أن أفكر في الله الواحد إلا من خلال الثالوث ولا في الثالوث إلا من خلال
الله الواحد.
ولا يهمنا من هذه المرحلة الفكرية إلا
تأكيد أن الكل اتفقوا على العقائد الكتابية من حيث أن الله واحد قد تجسد في المسيح
بسرّ يفوق عقولنا وأن الآب والابن والروح القدس جوهر واحد في ثلاثة أقانيم.
v
صياغة
العقيدة:
ولقد اتفقت الكنيسة في كل زمان ومكان
على هذه الحقائق وإن كان هناك اختلافات اصطلاحية وتاريخية ولكن الحقيقة واحدة لا
تتغير، أما من انحرف عنها فقد رفضته أو عزلته الكنيسة عندما انحرف عن الحق الإلهي،
كما يتضح ذلك من التاريخ الطويل للكنيسة، والذي يمكن إيجازه فيما يلي من حيث
محاولة حل اللغز الخرستولوجي.
وفي الجدول تبسيط لتاريخية ذلك الفكر مع
تعريف بفكر الفرق الأربع :
1- الملكية يعتقدون أن
السيد المسيح، المولود من السيدة مرتمريم، أقنوم واحد إلهي وهو المولود من الآب
قبل كل الدهور، وأنه طبيعتان، طبيعة إلهية وطبيـعة بشـرية، وفعلان فعل إلهي وفعل
بشري، ومشيئتان مشيئة إلهية ومشيئة بشرية. وأن السيدة مرتمريم والدة الإله، بقولهم
أقنوم واحد إلهي.
2- وأما النسطوريون، فيعتقدون
أنه أقنومان، أقنوم إلهي وأقنوم بشري،
وطبيعتان طبيعة إلهية وطبيعة بشرية، وفعل واحد إلهي، ومشيئة واحدة إلهية، وأن
مرتمريم ليست والدة الإله.
3- وأما اليعاقبة فيعتقدون أنه أقنوم
واحد إلهي، وطبيعة واحدة إلهية، وفعل واحد إلهي، ومشيئة واحدة إلهية.
4-والموارنة يقولون أقنوم
واحد إلهي وطبيعتان إلهية وبشرية، وفعل واحد إلهي، ومشيئة واحدة إلهية.
وهذا الاقتباس من مقال بولس الراهب أسقف
صيدا الأنطاكي (الكاثوليكي الملكي الخلقدوني) وهو يستهل مقاله: «بسم الآب
والابن والروح القدس، الإله الموحد جوهره، المثلثة أقانيمة».
[15] التوراة، العهد القديم في الكتاب المقدس، سفر
العدد
اَلأَصْحَاحُ 23 الآيات 25-30 واَلأَصْحَاحُ 24 الآية 2.
[52] التوراة، العهد القديم في الكتاب المقدس، سفر تكوين اَلأَصْحَاحُ 1 الآية 26 واَلأَصْحَاحُ
3 الآية 22 واَلأَصْحَاحُ
11 الآية 7 وإشعياء
اَلأَصْحَاحُ 6 الآية
8.
[53] التوراة، العهد القديم في الكتاب المقدس، سفر التكوين
اَلأَصْحَاحُ 31 الآيات
11و13، اَلأَصْحَاحُ 48 الآيات 15و16
ومزمور45 الآيات 6و7 و110 الآية 1 وإشعياء اَلأَصْحَاحُ 9 الآية 6،
اَلأَصْحَاحُ 44 الآيات
6و7و24
وملاخي اَلأَصْحَاحُ 3 الآية 1.
[63] التوراة، العهد القديم في الكتاب المقدس، سفر التكوين
اَلأَصْحَاحُ 1 الآية 2 واَلأَصْحَاحُ 6 الآية
3 ومتّى اَلأَصْحَاحُ 12 الآية
31 ولوقا اَلأَصْحَاحُ 12 الآية
12 ويوحنا اَلأَصْحَاحُ 15 الآية
26 و اَلأَصْحَاحُ 16 الآيات
7، 13، 14 وأعمال الرسل اَلأَصْحَاحُ 5 الآيات
3-9 واَلأَصْحَاحُ 16 الآيات
6و7، ورومية اَلأَصْحَاحُ 8 الآية
9 و1كورونثوس اَلأَصْحَاحُ 12 الآية
11 و2كورونثوس اَلأَصْحَاحُ 3 الآية
17 وغلاطية اَلأَصْحَاحُ 4 الآية
6، وفيلبي اَلأَصْحَاحُ 1 الآية
19، و1بطرس
اَلأَصْحَاحُ 1 الآية 11.
[64] متّي اَلأَصْحَاحُ 3 الآيات 16و17، قارن مع مرقس اَلأَصْحَاحُ 1 الآيات 9-11، ولوقا
اَلأَصْحَاحُ 3 الآيات 21و22.
[75] الإنجيل، رسالة الرسول بولس الأول لتيموثاوس اَلأَصْحَاحُ 3 الآية 16 و رسالته الثانية لأهل كورنثوس
اَلأَصْحَاحُ 12 الآية 3.
0 التعليقات:
إرسال تعليق