مباحث للعقلاء والمفكرين
المبحث الرابع
هل يعقل أن
الله ثلاثة ؟
إعداد
د. القس / سامي منير اسكندر
باحث ومحاضر في الدين المقارن
الفصل
الثالث
ما هي الوحدانية
اللائقة بالله؟
إن الوحدانية اللائقة بالله هي الوحدانية الجامعـة،
وليست الوحدانية المحـضة التي تطـلق على شيء في حالة الجهل بالشيء أو الجهل
الحقيقي بالوحـدانية على بعـض المخلوقات، إليـك بعـض الأمثلة من الكائنات لنتأمل
فيها ونعرف وحدانيتها:
1) إذا
نظرنا إلى قطعة من الجماد كالحديد مثلاً، وجدنا أن لها وحدة، لأنه ليس فيها
غيرها، من حيث كونها قطعة من الحديد. لكن ما أتفه وحدتها هذه، وما أقل مميزاتها،
لأنه ليس بينها وبين ذاتها نسب أو علاقات تجعل لها كياناً خاصاً يميزها من الناحية
النوعية عن غيرها من الحديد الذي تنتمي إلى فصلته.
2) وإذا
انتقلنا لمملكة النبات ونظرنا إلى الطحلب مثلاً، وجدنا أنه لا يقوم بمميزات واضحة،
لأنه لا يمكن التمييز بين مستعمرة وأخرى من فصيلته، إلا بالمجهر. ولذلك كان الطحلب
نباتاً دنيئاً (بالنسبة للنباتات الراقية). ووحدانيته تافهة أو غير ظاهرة. أما إذا نظرنا إلى الأشجار فإننا نجد أن كل شجرة قائمة بمميزات واضحة،
وأمكننا تبعاً لذلك أن نميز بين كل شجرة وغيرها من فصيلتها ومن الفصائل الأخرى بكل سهولة. ولذلك كانت الأشجار نباتات
راقية، وكانت وحدانية كل منها ظاهرة أو سامية.
3) إذا تركنا بقية الخليقة التي تبرهن على وحدانية الله
الجامعة، ونظرنا إلى البشر قمة الخليقة، وجدنا أن كل إنسان قائم بمميزات
واضحة، وهذه المميزات نوعان: مادية ومعنوية. فالأولى تبين وحدانية
الشكلية، وتميزه عن غيره من البشر من الناحية الجسدية. والثانية تبين وحدانية
المعنوية أو بالأحرى شخصيته التي هي الجوهر الحقيقي لإنسانيته، وتميزه عنهم من
الناحية العقلية والروحية. ولذلك حتى إذا أتفق بعض الناس في المميزات الشكلية تظل
لكل منهم شخصيته، التي لا يشاركه فيها غيره. لهذا السبب كنت الوحدانية الإنسانية
أسمى من وحدانية أي مخلوق من المخلوقات.
والخلاصة أن
لكل وحدانية حقيقية مميزات تعينها، وأن أرقي أنواع المميزات هي العقلية والروحية.
وهذه المميزات لا توجد إلا في أرقي الكائنات وأسماها. وكل وحدانية سواء مادية كانت
أو روحية، تقوم بمميزات تنشأ بينها وبين ذاتها نِسَب أو علاقات، وأن هذه المميزات
هي التي تبيّن حقيقة وحدانيتها. فإن كان الله واحداً قائماً بذاته، ألا يكون أيضاً
متميز بمميزات خاصة، تدل إلى حقيقة وحدانيته، وتنشأ أيضا بسببها علاقات بينه وبين
ذاته؟ أو بتعبير أدق، ألا تكون ذاته عينها مع وحدانيتها وعدم وجود أي تركيب فيها،
تتميز بمميزات خاصة، تنشأ بسببها علاقات بينها وبين نفسها؟
والجواب:
طبعاً نعم، وإليك الأدلة على أن وحدانية الله تتميز بمميزات خاصة:
v المميزات الخاصة بوحدانية الله
لله تعيّن
خاصة. وكل كائن له تعيّن خاص له مميزات تبين حقيقته. فمن المؤكد أن تكون لله
مميزات (أو متميزاً بمميزات). تبين حقيقته. بما أن صفات الله لم تكن عاطلة أزلاً
ثم صارت عاملة عندما خلق، بل كانت عاملة أزلاً قبل وجود أي كائن من الكائنات، لآن
هذا يتناسب مع ثباته وعدم تعرضه للتغير، كما ذكرنا سابقاً.
v أمثلة منطقية:
1. العـدالة
تـدل على التعادل([1])،
والتعـادل في الكائن الفرد معناه التوافق والانسجام. لذلك أتصاف الله بالعدالة
أزلاً يدل على وجود توافق وانسجام بينه وبين ذاته. ووجود توافق أو انسجام بينه
وبين ذاته يدل على وجود علاقات بينه وبين ذاته.
2. المحبة
صفة تدل على وجود روابط بين اثنين على الأقل، أحدهما محب والآخر محبوب. ولذلك
فأتصاف الله بالمحبة أزلاً، يدل على وجود علاقات خاصة بينه وبين ذاته، وهكذا الحال
مع باقي الصفات.
لأن الله محبة، هو المحبة في
أعلى صورها، وهذه المحبة تعود إلى كينونته فهو يمارس الحب منذ الأزل وإلى الأبد،
ولا يمكن أن تكون هذه الصفة قد أضيفت إليه في وقت من الأوقات، وإلا فإنه يكون قد
تغير– وحاشا لله أن يتغير-. ولابد لكي يمارس أحد الحب أن يكون هناك محبوب، ولذا
فالسؤال هو يا ترى من الذي كان يحبه الله قبل خلق الإنسان والعالم والخليقة؟ هل
يوجد أزلي آخر غير الله، حاشا؟ ولذا لابد أن يكون هذا الحب موجها إلى أقنوم آخر في
جوهره الواحد، ولذا نستطيع أن نقول أن الله مكتفي بذاته من خلال أقانيمه فأقنوم
الآب يحب اقنوم الإبن والإبن محبوب من الآب وهكذا.
لـو فـرضنا أن الله لم تكن له علاقة بينه وبين
ذاته أزلاً، وقلنا إن له علاقة بالخليقة لأنه الخالق والمعتني بها، لكانت النتيجة
الحتمية لذلك أنه دخل في علاقة لم يكن لها أساس في ذاته أزلاً، فيكون قد تطوّر وتغيّر!
وبما أنه لا يتطور ولا يتغير، إذا لا مفر من التسليم بأن له علاقة أزلية بينه وبين
ذاته. لذلك فهو يتميز بميزات خاصة يمكن أن تنشأ بسببها هذه العلاقة.
والخلاصة هي
أن الله مع وحدانيته وعدم وجود تركيب في ذاته يتميّز بمميزات خاصة، إذا فهذه
المميزات لا يمكن أن تكون غير ذاته، لأنه لا شريك له. ولا يمكن أن تكون عناصر أو
أجزاء في ذاته، بل أن تكون هي عين ذاته، لأته لا تركيب فيه. ولا يمكن أن تكون
مادية بل أن تكون روحية، لأنه لا أثر للمادية فيه. ولا يمكن أن تكون محدودة بأي
نوع من الحدود، بل أن تكون منزّهة عن الحدود، لأن ذاته لا يحدّها حدّ.
وحدانية
الله لا يمكن أن تكون وحدانية مجردة من الصفات الإيجابية، أو وحدانية مطلقة لا
مجال لوجود صفاتها بالفعل أزلاً. بل لابد أن تكون وحدانية تتصف بكـل الصفات
الإيجابية اللائقة بها، وأن تكون هذه الصفات ليس بالقوة بل بالفعل أزلاً. وبتعبير
آخر لابد أن تكون وحدانية الله ذات كيان حقيقي، أو وحدانية لها، مميزات خاصة بها،
تنشأ بسببها بينه وبين ذاتها علاقات خاصة منذ الأزل إلى الأبد، بصرف النظر عن وجود
المخلوقات أو عدم وجودها.
v المشكلات والحلول المقترحة
أما الذين
لا يفهمون معنى كون وحدانية الله جامعة مانعة، ومعني تميز الله بمميزات له بها
علاقات بينه وبين ذاته أزلاً، فيظنون أن تلك الوحدانية تتعارض مع عدم وجود تركيب
فيه، وأن هذه العلاقات تتعارض مع تفرّده بالأزلية. وفيما يلي بعض المشكلات
وحلولها:
المشكلة
الأولى: «لا تقوم
للعلاقات قائمة إلا بين اثنين على الأقل، والله هو الأزلي وحده. فليس من المعقول
أن تكون له أصلاً أو أزلاً أية علاقة من العلاقات. وبناء علي رأيهم لا تكون لذاته
مميزات خاصة بها».
الحل: ليس للكائن العاقل علاقة مع غيره فحسب، بل له أيضًا
علاقة بينه وبين ذاته. فالأولى اكتسابية أو غير أصلية، أما الثانية فذاتية أصلية.
وليس هناك شيء في الوجود لا علاقة له بينهُ وبين ذاته، أو بينه وبين غيره إلا غير
الموجود، لأنه لا يتميز بميزة تدل على أنه له كيان خاصًا، وبما أن الله كائن عاقل
لا نهائياً، له كيانه الخاص ووجوده الحقيقي الواقعي، إذا فوجود علاقات بينه وبين
نفسه أمر يتطلبه وجوده ذاته. لأنه لا سبيل لوجود العلاقات في وحدانية مجردة من
المميزات.
المشكلة
الثانية: «يدل تميز
الله بمميزات خاصة على قيامه بكثرة، والحال أنه ليس به كثرة ما».
الحل: ليست المميزات التي يتميز بها الله عناصر أو أجزاء
فيه، أو أموراً مقترنة به، بل هي عين ذاته المتميزة بكل ما هو لائق بكمالها
واستغنائها عن غيرها، لأنه لا تركيب فيه. فالمميزات المذكور ليست كثرة بالمعني
المعروف في الكائنات، بل هي الخصائص الأصلية الذاتية لله، والتي بدونها لا يكون
إلهاً حقيقياً، بل إلهاً وهمياً، إلهاً كانت صفاته عاطلة أزلاً. وهذا يتعارض مع
كماله واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود، وعدم تعرّضه للتطوّر والتغير.
المشكلة
الثالثة: «لا يصح اتَّخاذ العلاقات الموجودة بين الكائنات العاقلة وبين ذواتها دليلاً على وجوب علاقات لله بينه وبين ذاته، لأنه لا يصح تطبيق
صفات المخلوق على الخالق».
الحل: إننا لم نفعل ذلك إطلاقاً، بل استنتجنا وجود علاقات
لله بينه وبين ذاته من عـدد أدلة منها على سبيل المثال: أتصافه بالصفات الإيجابية
وممارسته لها أزلاً، قبل وجود أي كائن سواه، الأمر الذي يتطلب كماله المطلق،
واستغناؤه بذاته عن كل شيء في الوجود.
من إعلان
الله نفسه عن ذاته من خلال الإنجيل يقول: «وَقَـالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ«…فَكَـانَ نُوٌر…وَقَـالَ اللهُ: « نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُـورٌتِنَا كَشَبَهِنَا
فَيَتَسَلَّطُونَ…»([2]). لاحظ قال لمن؟ ولم تكن هناك خليقة، بل الكلمات «نعمل…صورتنا…كشبهنا» دليل إلى وجود العلاقات. وهذه العلاقات الموجود هي
حقيقة ثابتة مُدركة لدينا تماماً، لا سبيل لإنكارهاً.
بالرغم من
أنه لا يصح اتَّخاذ العلاقات الموجودة بين الكائنات العاقلة وبين ذواتها دليلاً على وجوب علاقات لله بينه وبين ذاته، لأنه لا يصح تطبيق
صفات المخلوق على الخالق، إلا أنه عكس ذلك يتفق مع قول التوراة: «وَقَالَ اللهُ: نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى
صُورٌتِنَا»([3]). ففي الإنسان نري صورة الله. دون أن نرسم صورة لله،
لأن هذا خطأ.
والآن لاحظ
أن لله خصائص (أو مميزات أو صفات أو تعين)، لا يشاركه فيها الإنسان، مثال أن الله
غير محدود، وصفاته هكذا، لكن الإنسان محدود، وصفاته كذلك. الله سرمدي، ولكن
الإنسان غير سرمدي. الله غير متغير، ولكن الإنسان متغير. هذه الصفات «غير قابلة للانتقال»، لأنها تخص الله وحده، ولا يعطيها لأحد سواه، بل
يحتفظ بها لنفسه فقط.
ولكن لاحظ
أن هناك خصائص لله يشاركه فيها الإنسان، مثال ذلك الوجود والحكمة والقدرة، لأنه
أعطي أيضا للإنسان، لأن هذه الصفات أو الخصائص أو المميزات نسميها «خصائص قابلة للانتقال»، وذلك ليكون مشابها له.
أخير عندما
نتحدث عن الصفات القابلة الانتقال، أنه هناك فرق بين وجودها في الله، بشكل غير محدود، وغير متغير، لكن في الإنسان محدودة ومتغيرة،
كمثال الإنسان وصورته في المرآة، فالأول حقيقي والثانية غير حقيقية، فهذه الخصائص
في الله أسمي مما في الإنسان.