مباحث للعقلاء والمفكرين
المبحث الرابع
هل يعقل أن
الله ثلاثة ؟
إعداد
د. القس / سامي منير اسكندر
باحث ومحاضر في الدين المقارن
الفصل الأول
هل يعقل وجود أكثر من إله واحد؟!
لا يوجد أكثر من إله
واحد فقط، بل هو الله الإله الحي الحقيقي. لقد واجهت مشكلة وحدانية الله صعاب كثيرة في تاريخ الخلاص. ففي العهد
القديم عاش شعب الله الصعاب الكثيرة للدفاع عن شيء يؤمن به ألا وهو «الإله الواحد». والمسيحية منذ نشأتها عانت وتعاني حتى الآن هذه المشكلة. «فالمسيحية
تعترف بوحدانية الله قبل أن تعترف بمذهب التثليث. فمذهب الوحدانية جاء أوّلاً وسبق
كل اعتراف بالثالوث. فيقول البعض أننا نعبد ثلاثة آلهة، أي أننا مشركون. ولكن، في
ضوء الكتاب المقدس هنالك نصوص واضحة صريحة تتحدث عن وحدانية الله في المسيحية وعن
التأكيد أن عبارة «لا إله إلا الله» عبارة مسيحية. أي أنه توجد نصوص في
التوارة (العهد
القديم) والإنجيل (العهد
الجديد) وفي تاريخ الكنيسة
كلّها تتحدث عن وحدانية الله. وهنالك أيضا العقل لإثبات هذه الوحدانية والفلسفة
أيضا». والتوارة (العهد
القديم) والإنجيل (العهد
الجديد) كلمة الله تؤكد لنا
هذا المعني قائلة:
«الرب هو الإله في السماء من فوق وعلي الأرض من أسفل ليس سواه»([4]). «أنا الرب و
ليس آخر. لا إله سواي»([5]).
«أَلَيْسَ أَنَا الرَّبُّ وَلا إِلهَ آخَرَ غَيْرِي. إِلهُ بَارُّ
وَمُخَلِّصٌ لَيْسَ سِوَايَ. اِلْتَفِتُوا إِلىَّ وَاخْلُصُوا، يَا جَمِيعَ
أَقَاصِي الأَرْضِ، لأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرَ»([7]).
عندما سأل أحد الكتبة يسوع: «فَأَجَابَهُ: إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الوَصَايَا هِيَ
اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌ وَاحِدٌ…فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ: جَيِّداً يَا مُعَلّمُ بِالحَقّ
قُلتَ، لأَنَّهُ اللهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرَ سِوَاهُ»([9]).
وقانون
الإيمان الذي نردده في كنائسنا بجميع طوائفنا يقول: «نؤمن بإله واحد». نؤمن نحن
المسيحيين بأن الله واحد لا شريك لـه، خالق السماوات والأرض، القدير الحكيم، الذي لا بداية له ولا نهاية، الأول والآخر، الرحمن العادل، القدوس والجواد، الحق الحي، الذي لا يُرى ولا يُلمس أو يُدرك بالحواس البشرية.
أولاً: العقل يؤكد وحدانية الله
العقل
يؤكد لنا وحدانيّة الله إنْ
أخذنا الموضوع من ناحية أخرى وتساءلّنا: هل العقل السليم يستطيع أنْ يصل إلى إثبات
هذه الحقيقة «أنَّ لا إله إلاَّ واحد» بالتفسير
المنطقي؟ بالطبع نعم، لأنّنا، عندما نلفظ كلمة: "الله"، ماذا نقصد بها؟
الله هو الكائن الذي يشمل في ذاته كلّ الوجود وكلّ الممكن وكلّ المستحيل. هذا هو
الله. فإنْ افترضنا وجود إله آخر بجواره، خارج دائرة الألوهيّة، نفينا كيانه كشامل
الكلّ. فالله لا يكون إلاَّ إذا شمل ذلك الكائن الآخر الذي بجواره، لأنَّ الله يجب
أنْ يشمل في ذاته كلّ الوجود. فتصبح دائرة الألوهيّة بلا حدود، ليس في خارجها شيء
ولا شخص ولا كائن مادّي أو روحيّ أو أرضيّ أو سمائيّ، أيًّا كان. فحين نقول:
"هناك ثلاثة آلهة"، يكون كلامنا مناقضًا لذاته. فإذا افترضنا أنَّ الآلهة الثلاثة تقاسموا الوجود أو
الألوهيّة، أي قلنا إنّ تعريف الإله لا ينطبق على
أحدهم، لأنَّ كلمة الله شاملة لكلّ الوجود.
إذن
فإنَّ معطيات الإيمان المسيحيّ ومعطيات
العقل والفلسفة تقابل إعلان وحدانيّة الله.
وإذا قلنا أن هنالك إلهين كما في بدعة
"ماني"، فالعقل السليم يحكم بأن علة العلل لابد أن تكون واحدة
فقط، لأنه يستحيل على العقل التسليم بوجود علتين أو أكثر، غير محدودتين، سرمديتين
غير متغيرتين.
وهذه الأدلة العقلية تؤكد ذلك، منها ما يلي:
1-
الكثرة لا توجد إلا في الكائنات حيث الضعف
والانقراض فيها، ليحل واحد من أفرادها عوضاً عن المنقرض، ولإن الله أزلي أبدي، ولا يضعف أو يتغير على الإطلاق، فلا يمكن أن
يكون هناك سواه.
2-
وشيء آخر، وهو إذا فرضنا أن هناك إلهين، وجود آلهة غير الواحد أحد فيعني أن لكل واحد منهم مكان، لكان كل منهما متحيزاً بمكان، أو حيّز يريد أن يشغله. ونحن نعرف أن الله موجود في كل مكان وليس
في مكان واحد، فلا يمكن أن يكون هنالك آلهة أخرى، بل إله واحد،
3-
وبما أن التحيز بمكان لا يكون أزلياً بل حادثاً، فلا يمكن أن
يكون أي منهما هو الله، لأن الله لا يتحيز بحيّز. فلا يمكن أن يكون هناك إلا إله
واحد غير متحيز بمكان. وهذا الإله هو الله.
4-
إذا ما نظرنا حولنا نجد أن هنالك تبدّل قد حصل في العالم.
كائنات تولد وكائنات تزول ويحلّ محلها كائنات أخرى. أو يحصل هنالك تبدل فيها. إلا
أن الخالق الذي أوجد هذه الكائنات فلا يتبدل بل أبدي لا يزول. إذا قلنا أن هنالك
إلهين كما في بدعة "ماني"([16]) فسيقع هنالك
فوضى وخصام، لأن كل واحد يريد أن يفرض أمره وبالتالي تحصل فوضى. وأن كل واحد يريد
أن يخلق العالم على هواه ويريد أن يفرض سلطته.
ولو فرضنا أيضًا أن هناك إلهين، لكانا إما قد اتفقا على خلق
العالم أو اختلفا.
5-
فإن كانا قد اتفقا على أن يقوماً بهذه المهمة، أو اتفقا
على تقاسم السلطة، لما كان كل منهما مستقلاً في عمله. وهذا يتعارض مع الألوهية،
لأن من مستلزمات الألوهية الاستقلال بالعمل. وهذا يعني أنه لا
توجد حرية العمل على عكس الله الواحد الأحد الذي من متطلباته الاستقلالية في العمل
وأخذ القرار.
6-
وإن كانا قد اتفقا على اقتسام المهمة المذكورة بينهما لكانت
سلطة كل منهما محدودة. وإن كانا قد اتفقا على أن يعمل أحدهما دون الآخر لكان
أحدهما عاطل، وهذا ما يتعارض مع الألوهية كذلك، لأن من مستلزمات الألوهية الحياة
والعمل.
7-
أما إذا كانا قد اختلفا، لما كانت هناك وحدة أو انسجام في
العالم، ولكان قد تلاشى وانعدام تبعاً لذلك منذ تأسيسه. والاختلاف يعني عدم الانسجام بين هذين الأمرين. فمن المعقول أن هناك
في الكون إله واحد، وهو الله.
ثانياً:
الخليقة تؤكد وحدانية الله
أن الخليقة
تدل على وحدانية الله، في دلالتها على وجوده. لأنه إذا كان كل معلول يستلزم علة
حكيمة، كذلك المعلولات العديدة، المتفقة النظام تستلزم وحدانية العلة. وبما أنه
يوجد اتفاق كلّيّ، وموافقة كاملة في كل الخليقة، فالنتيجة الطبيعية هي «أن الخالق واحد».
فإن الكون كله خلقاً
وتدبيراً يشهد بوحدانية الله...خلق السماوات والأرض..واختلاف الليل
والنهار..وأصناف الجماد والنبات والثمار..وخلق الإنسان والحيوان..كل ذلك يدل على
أن الخالق العظيم واحد لا شريك له.
وهذه المخلوقات العظيمة إما
أنها خلقت نفسها وهذا محال..أو أن الإنسان خلق نفسه ثم خلقها وهذا محال أيضاً.
لننظر إلى
الطبيعة نفسها ونحللها جيداً. فالعلماء يقولون عن هذه النبتة أنها مفيدة لشفاء مرض
معين أو لإضفاء جمال للسيدة. ولكن أليست كل هذه النباتات تشترك في أجزاء رئيسية
خاصة بها، كالساق والأوراق والجذور.
لننظر إلى الإنسان أيضا، فهو مكون
من أعضاء تشابه الأعضاء لإنسان يعيش في أفريقيا الجنوبية أو في الصين، أي أن كل
جنس يختلف عن الآخر بالمظهر الخارجي ويشابهه في التكوين الجسمي.
وإذا نظرنا الى المادة نفسها نرى
أنها تشترك في التركيب العام لذراتها، فجميع الذرات (كما يقول العلماء) تشبه
المجموعة الشمسية التي نعيش في مجرتها. وهناك أشياء أخرى تطلعنا على اوجه الاختلاف
بين المخلوقات والتشابه بين نفس الكائنات لتدلنا على أن هنالك خالق واحد لها،
يسيّرها وينظمها في الكون، وهو الإله الواحد، الله.
وقد دل العقل والوحي والطبيعية على أن
لهذا الوجود موجداً..ولهذه المخلوقات خالقاً..حي قيوم..عليم خبير..قوي عزيز..رؤوف
رحيم...عليم بكل شيء..لا يعجزه ولا يشبهه شيء..ووحدانية الله معلومة بالضرورة وبداهة العقول.
ثالثاً:
العناية الإلهية بالخليقة تؤكد
وحدانية
الله:
هو وحدة
التدبير فيما تقوم به حياة الإنسان، وسعادته، ودوام كل الخليقة في الظروف التي
خُلِقتَ عليها([17]).
وتنوع هذه المخلوقات
وعظمتها..وإحكامها وإتقانها..وحفظها وتدبيرها كل ذلك يدل على أن الخالق واحد يفعل
ما يشاء..ويحكم ما يريد...
وكل ما سبق يدل على أن لهذا
الخلق خالقاً..ولهذا الملك مالكاً..ووراء الصورة مصور...وصلاح السماوات
والأرض..وانتظام الكون..وانسجام المخلوقات مع بعضها..يدل على أن الخالق واحد لا
شريك له.
رابعاً: البرهان
الذاتي في الله يؤكد وحدانيته:
يتبرهن ذلك
من كـونه تعـالى يسمَّى أحيانًا بإحـدى كمالاته:
كالقول «اللهَ نُورٌ»، فليس معناه أن الله نورٌ بمعنى الضوء ومن اعتقد ذلك
فقد ضل وكفر إلا لسمي الله أنوار، إنما معنى القول أن «اللهَ نُورٌ»: أنه يهدي المؤمنين لنور الإيمان.
و«اللهَ مَحَبَّةٌ»، وليس محبات.
و«اللهَ قوةً»، وليس قوات.
و«اللهُ رُوحٌ». وليس أرواح.
1- اسم
الجلالة «إيل»:
اسم الجلالة في اللغة العبرية «إيل»
بالمفرد وقد جاء 250 مرة. واسم الجلالة في الجمع هو «إلوهيم»([18]) وقد جاء 2500 مرة. وقد قيل إن هذا
للتعظيم، فحينما تنطق اسم الله لا بد أن تقوله بالجمع مثلما تقول لعظيم "حضرتكم، سيادتكم، فضيلتكم". لكن
هذا الأسلوب قاصر على اللغة العربية فقط، ولا يوجد في العبرية، لأنها لو كانت كذلك
إذاً ما الداعي لوجود الاسم «إيل»([19]) بالمفرد 250 مرة؟ ثم الملاحظ في العهد
القديم كلمات فرعون كانت بالمفرد «أنا»
ولم تكن أبداً بالجمع «نحن» مثل «حَلُمْتُ حُلْماً»([20])،
وليس «حلمنا». وعندما تكلم يوسف معه خاطبه أيضاً بالمفرد
مثل «قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ..قَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ لِفِرْعَوْنَ..لِيَنْظُرْ
فِرْعَوْنُ»([21]).
2- أقوال الله:
في صيغة الجمع والمفرد في آن واحد مثل: «نَعْمَلُ
الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا»([22]) (في
صيغة الجمع). ثم الآية التالية لها في صيغة المفرد
صفات ذات الله عديدة منها مثلاً المحبة،
والسمع، والكلام. فلو كان الله في وحدانيته الواحد الفرد، العدد الحسابي البسيط، ما
دام الله واحدًا.
فكيف نفسّر عقيدة الثالوث؟
الثالوث لا يُفسَّر إلاَّ من خلال إطار
الوحدانيّة، ولكن كيف يمكن أنْ نجمع بين وحدانيّة الله وتثليثه؟ هذه مشكلة عقلية ضخمة،
إذ إنّ الموضوع ليس سهلاً.
الدليل أنَّ
المسيحيّين الأوائل لم يقبّلوا هذه الحقيقة بسهولة، كما نشرب رشفة ماء، بلّ إنّهم بالروح القدس والتفكير الجادّ المضني صاغوا هذه
الحقيقة في قانون الإيمان.
والآن فلنبدأ في التسلسل المنطقيّ الذي
سيجعلنا نتعمّق في الموضوع شيئًا فشيئًا.
v الله
كامل
كلّنا نوافق على أنَّ الله كامل،
وأنَّه، إنْ لم يكن كاملاً، فلا يكون الله. فكلمة "كامل" تعني أنَّ الله
يجمع في ذاته كلّ الصفات الحسنة على الإطلاق. إنْ كنت أنا ذكيًا، فهو ذكيّ على
الإطلاق، وإنْ كنتُ حكيمًا، فهو حكيمٌ على الإطلاق. وإنْ كنت رحيمًا فإنّه رحيمٌ
على الإطلاق.
فإنْ كان في العالم محبّة، ومصدر العالم
هو الله، يجب إذًا أنْ يمتاز الله بهذه المحبّة على الإطلاق. والخلاصة أنَّ كلّ
الصفات الحسنة التي في العالم هي في الله، ولكن على وجه الإطلاق.
v الله
محبّة
في نظر الفكر المسيحيّ، يلخّص الاعتراف
بأنّ الله محبّة كلّ صفات الله التي يُمْكن أنْ نصفه بها، لأنّ كوْن الله محبّة
يفترض أن يكون رحيمًا ورزّاقًا وغفورًا...إلخ. ولكن
الاعتراف بأنّ الله محبّة لا ينفصل عن الاعتراف بأنّ الله ثالوث، والاثنان مرتبطان
ارتباطًا حتميًا، كما سنراه في ما يلي.
ونصل لهذه النتيجة بالاستعانة بالعقل البحث، واضعين طبعًا في الخلفيّة إيماننا
وعقيدتنا.
v ما
هى المحبّة؟
المحبة هي بذل وعطاء. فعندما نقول:
"إنَّ الله محبّة"، نعني أنَّ تلك المحبّة تقتضي لدى الله بذلاً وعطاءً. ولكن إنْ
تساءلّنا: بذل وعطاء لِمَن، افترضنا أنَّ المحبَّة تقتضي ثنائية: حتى يكون هناك
محبَّة، يجب أن يكون هناك طرفان: طرف يعطي وطرف يستقبل. يبدو لنا إذًا تناقض
ظاهريّ بين كَوْن الله واحدًا وكَوْنه محبّة. ونعود للسؤال: بذل وعطاء لِمَن؟
تظهر هنا عدة اقتراحات أو احتمالات
سنضعها ونناقش كلاَ منها:
أوّلاً: أن يكون الطرف
الثاني إلهًا آخر. إنَّ ذلك أمر مرفوض أصلاً، لأنَّ العقل لا يقبل تعدّد الألهة،
كما سبق وأوضحنا.
ثانيًا: إن قلنا: إنّ الله
يحبّ نفسه، نُلغي صفة المحبَّة منه، لأنَّ حبّ الذات عكس المحبّة ونقيضها، ولأنَّ
المحبَّة تحتّم وجود علاقة عطاء وتبادل ومشاركة.
ثالثًا: قد يقول قائل: إنَّ
الله أفاض من محبّته على الخلق والبشر، فلا داعي إذًا أنْ نفترض داخل إطار
الإلوهيّة مجالاً آخر للتعبير عن هذه المحبَّة. وعلى هذا الرأي، يمكننا أنْ نعترض
للأسباب الآتية:
والسؤال لماذا
يعجز المخلوق عن أن يتيح لله مجالاً كافيًا للتعبير عن محبّته اللامتناهيّة؟
1- لأنّ المخلوق محدود في الاستيعاب
والقـبول،
إذ إنّ الله، مهما بذل من محبّة وأفاضها على مخلوقاته، لا يستطيع أنْ يفيض علينا
كلّ ما لديه من محبّة، فإنَّ للمخلوق طاقة محدودة للأخذ والقبول والاستيعاب. فيكون
العطاء محدودًا، لا من حيث المعطي، أي الله، بلّ من حيث القابل، أي الخليقة والإنسان.
وبما أنَّ الله بذلٌ وسخاء مطلقان، فمن الواضح أنّ الخليقة عاجزة عن أن تتيح لله
مجالاً كافيًا لتحقيق محبّته اللامحدودة، إذ ليس في طاقة المحدود أن يستوعب
اللامحدود. ومهما كثر عدد المخلوقات، تظلّ هذه الحقيقة ثابتة، إذ إنّ المحدود +
المحدود لا يمكن أنْ يساوي اللامحدود. والمحبّة الإلهية اللامحدودة لا يمكن أن
تعبّر عن ذاتها بطريقة مطلقة من خلال الكائنات المحدودة، أي المخلوقات.
لا يعني هذا أنَّ الله لا يحبّنا، لكنّ
كلّ شحص يأخذ من حبّ الله بقدر استيعابه. فلا يمكن لكوب أن يستوعب من الماء أكثر
من سعته، مهما صُبّ فيه من ماء. فخلاصة القول هو أنّ المخلوق عاجز تمامًا عن أنْ
يتيح لله مجالاً مناسبًا للتعبير عن محبّته اللامحدودة.
2- لأنّ الخلق محدود في الزمن أيضًا.
الخلق له بداية ونهاية. لم يكن منذ الأزل، بل ظهر في زمن ما وفي مرحلة معيّنة من
تاريخ الكون. فأطرح هنا سؤالاً: هل كان الله يتمتّع بصفة المحبّة من قبل وجود
الإنسان والكون؟ الجواب طبعًا: "نعم". ولكن مَنْ هذا الطرف الآخر الذي
كان الله يحبّه قبل إنشاء العالم؟ فمن الضروري أن يعيش الله محبّته، سواء كان
العالم موجودًا أو لم يكن. لذا يستحيل أنْ يمثّل العالم الطرف الآخر للمحبّة
الإلهية، لأنَّه محدود في الزمن.
3- لأنَّ الله لا يمكن أنْ يتقـيّد
بالخلق تقـيّدًا ضروريًّا. لو كان تحقيق الذات الإلهيّة مرتبطًا
بالمخلوق ارتباطًا حتميًا، لَمَا كان الله إلهًا. وإنْ كان الله مقيّدًا بالمخلوق
حتّى إنّ المخلوق يصبح شرطًا أساسيًا لتحقيق ذاته الإلهيّة وللتعبير عن محبّته، لا
يبقى الله إلهًا. الله هو الغنيّ، أي في غنًى عن
أي كائن آخر سواه، وهو المكتفى بذاته.
من الواضح ممّا سبق أنّ الله، حتّى يكون
الله، يجب أنْ يتّصف بالمحبّة المطلقة، وأنَّ المحبّة تقتضي الثنائيّة، وأنّ
الثنائيّة على شكل إله آخر مستحيلة، إذ لا إله إلاَّ الله، وأنّ الثنائيّة على
الخليقة والإنسان مستحيلة، لأنّ الإنسان عاجز عن أن يمثّل الطرف الآخر للمحبّة
الإلهيّة للأسباب التي عرضناها. إنّنا مضّطرّون إذًا، لعجزنا عن إيجاد الثنائيّة
خارج إطار الألوهيّة، إلى البحث عنها داخل إطار الله ذاته، أي في داخل إطار
وحدانيّة الجوهر الإلهيّ، لا في خارجه.
هل كانت محبته قبل الخليقة منذ الأزل
عاملة أم عاطلة؟ إن قلت عاطلة وتغيرت بالخليقة وأصبحت عاملة فيكون إلهاً متغيراً
وفي حاجة إلى خليقته!! حاشا لله أن يكون متغيراً أو محتاجاً. إذاً لابد أن تكون وحدانيته
جامعة من آب وابن وروح قدس، منذ الأزل والآب يحب الابن والابن يحب الآب، فالمحبة
فيه عاملة، إذاً هو لا يتغير. «هُوَ هُوَ أَمْساً وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ»([28]).
خلْقُ الخليقة لم يؤثر عليه لأنه في حالة اكتفاء بذاته، فهو ليس محتاجاً إلى خليقته في شيء. وكمال الصفة هي
أن تكون فعل وفاعل ومفعول به. فالله سبحانه هو الحب وهو المحب وهو المحبوب منذ
الأزل وإلى الأبد. فلابد أن تكون وحدانيته الوحدانية الجامعة حتى تكون صفاته عاملة
منذ الأزل.
خامساً: الإنجيل يؤكد وحدانية الله:
الإنجيل يؤكد وحدانية
الله وإليك هذه الأدلة:
1) الرب يسوع المسيح يعلن بفمه هذا الإيمان، عندما سأله أحد الكتبة([29]):
«أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَّوَلُ الْكُلِّ؟» فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الوَصَايَا هِيَ اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، الرَّبُّ
إِلهُنَا رَبٌ وَاحِدٌ…فَقَالَ
لَهُ الْكَاتِبُ: جَيِّداً يَا مُعَلّمُ بِالحَقّ قُلتَ، لأَنَّهُ اللهُ وَاحِدٌ
وَلَيْسَ آخَرَ سِوَاهُ»([30]). وهي نفس ما قاله الله في التوارة سفر
التثنية «اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ
الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌ وَاحِد»([31]).
2)
والرسـول بولس يقول في حديثه بالوحي المقدس لكنيسة رومية «لأَنَّهُ
لا فَـرْقَ بـَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ لأَنَّ رَبّـاً وَاحِداً لِلْجَمِيعِ غَنِيّاً
لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ»([32]).
3)
الرسول يعقوب يقول بالوحي المقدس ويعلن نفس الإيمان: «أَنْتَ
تُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. حَسَناً تَفْعَلُ»([33]). فنصوص التوارة والإنجيل تعلن هذا الإيمان أن الله
واحد أحد صمد وهو إلهنا لا إله إلا هو الصمد القيوم، لا شريك له.
v ملاحظة هامة
هناك بعض
الأشخاص تسمى «إلهًا» من الله ذاته كموسى، دلالة على نيابته عن الباري لدى
فرعون([34])،
وكذلك القضاة تسموا «آلهة» لكونهم ينفذون مقاصد الله([35]). أما
«الأصنام»، «والبطن»، «والمال»، فقد سميت بذلك نظراً لاتخاذ بعض الناس إياها آلهة
كقول الإنجيل: «الَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ الْهَلاَكُ الَّذِينَ إِلهُهُم بَطْنُهُمْ
وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الأَرْضِيَّاتِ»([36]). والشيطان تسمى «إلهًا» لتسلطه على
العالم الحاضر كقول الإنجيل: «الَّذِينَ فِيهِم إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ
الْمُؤمِنِينَ لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ المَسِيحِ
الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ»([37]). ومن هنا يتضح معني كلمة إله وهو سلطان مؤقت لعمل
وزمن معينين.
ويحب أن
نلاحظ الفرق بين «الله» و «إله». قال في الكليات: «إن اسم الله يُطلق إلى غيره تعالى، إذا كان مضافاُ،
أو نكرة». فقال الله
لموسى «أَنَا جَعَلْتُكَ إِلهاً لِفَرْعَوْنَ»([38]). فخصّصه بفرعون ليوقع عليه الضربات بأمر الله، فيقع
الرعب في قلب فرعون منه. إن وحدانية الله تعلم الاحتراز الكلي من تصور وجوده تعالى
جزئياً في السماء، وجزئياً على الأرض. لأنه إله واحد، غير متجزئ، وموجود بكماله في
كل مكان كقول الله: «أَلَعَلِّي إِلهٌ مِنْ قَرِيبٍ يَقُولُ الرَّبُّ وَلَسْتُ إِلهاً مِنْ
بَعِيدٍ. إِذَا اخْتَبَأَ إِنْسَانٌ فِي أَمَاكِنَ مُسْتَتِرَةٍ أَفَمَا أَرَاهُ
أَنَا؟ يَقُولُ الرَّبُّ، أَمَا أَمْلأُ أَنَا السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ؟ يَقُولُ
الرَّبُّ»([39]).
يسمى الله أحياناً الإله الحي الحقيقي، فهو الحي لثلاثة براهين:
1- لكونه ذا حياة في ذاته منذ الأزل وإلى الأبد، فقد علم يسوع هكذا
قائلاً: «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَياةٌ فِي ذَاتِهِ»([40]).
2- كما أنه
ينبوع الحياة لمخلوقاته، فالإنجيل يقول: «لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ…»([41]).
3- ومتميز عن آلهة الوثنيين التي ليس لها حياة، «أَصْنَامُهُمْ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ عَمَلُ
أَيْدِي النَّاسِ. لَهَا أَفْوَاهٌ وَلا تَتَكَلَّمُ، لَهَا أَعْيُنٌ وَلا
تُبْصِرُ. لَهَا آذَانٌ وَلا تَسْمَعُ، لَهَا مَنَاخِرُ وَلاَ تَشُمُّ. لَهَا
أَيْدٍ وَلا تَلْمِسُ، لَهَا أَرْجُلٌ وَلا تَمْشِي، وَلا تَنْطِقُ بِحَنَاجِرهَا.
مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا، بَل كُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا»([42]).
4 - كما أنه
الإله الحي الحقيقي تمييزاً لعزته الإلهية، عن الآلهة الكذبة التي هي ليست بآلهة
البتة، «…أَمَّا الرَّبُّ الإِلهُ فَحَقٌ. هُوَ إِلهٌ حَيُّ
وَمَلِكٌ أَبَدِيُّ. مِنْ سَخَطِهِ تَرْتَعِـدُ الأَرْضُ، وَلاَ تَطِيقُ الأَمُمُ
غَضَبَهُ»([43]).
v ماذِا نتعلم من ذلك؟
1. إن الإله الحي الحقيقي، يحب أن تُقدم له الذبائح الحيَّة، المقدسة،
المرضية، لـه تعالى: «فَأَطْلُبُ
إِلَيْكُمْ أَيَّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدَّمُوا أَجْسَادَكُمْ
ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ
الْعَـقْلِيَّةَ»([44]).
2. عـدم قبوله مجرَّد العبادة له بالشفاه، وضرورة
الاقـتراب منه بنقاوة القـلب، والنية الخالصة لله، «مَنْ يَصْعَـدُ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ، وَمَنْ
يَقوُمُ فِي مَوْضِعٍ قُدّسِهِ؟ اَلطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ، وَالنَّقِيُّ الْقَلْبِ،
الَّذِي لَمْ يَحْمِلْ نَفْسَهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَلاَ حَلَفَ كَذِباً»([45]). لكي يكون سجودنا له بالروح والحق، «اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ
فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا»([46])، و«هَا قَدْ سُرِرْتَ بِالْحَقَّ فِي الْبَاطِنِ، فَفِي
السَّرِيرَةِ تُعَرِّفُنِي حِكُمَةً»([47]).
[16] الفيلسوف ماني إنسان من "بلاد
الفرس" قال هذا عن نفسه: أنه الباراقليط روح القدس ويعتقدون
بوجود إلهين متساويين. مثل زرواستر (زرادشت) معلّم الفرس العظيم قال بوجود إلهين،
اسم أحدهما «أرومازد» وهو إله الخير والآخر «أهرمان» وهو إله الشر. من كتاب "علم اللاهوت النظامي" الفصل العاشر الأقوال الخاطئة في الله.
[18] ومعناه الحرفي
(المقتدرين) وهو صيغة جمع للاسم العبراني السالف (إيل) والذي معناه القدير، ولاسم
عبراني آخر هو (إيوه) ومعناه (يقسم أو يتعهّد)، فالاسم (إلوهيم) إذن يتضمّن معنى
القدرة والأمانة معاً، ومفرده العبراني هو (إيل)...
[19] إيل ومعناه (القدير) ومترجم في
توراتنا العربية (إله أو الله)...وقد ورد أحياناً في توراتنا العربية بنطقة
العبراني كقوله: (إيل بيت إيل) (تكوين35: 7)، أي (قدير بيت القدير)، أو مضافاً إلى اسم شخص كـ
(اسرائيل) الذي معناه (أمير الله أو القدير يصارع)، وإلى اسم مكان مثل (فنيئيل) أي
(وجه القدير)...
[35] التوراة، العهد القديم في الكتاب المقدس، سفر المزامير، مزمور82 الآية 6، والإنجيل، رسالة الرسول
بولس لأهل رومية اَلأَصْحَاحُ 12 الآية 2.
[43] التوراة، العهد القديم في الكتاب المقدس، سفر
إرميا
اَلأَصْحَاحُ 10 الآية 10، قارن مع سفر إرميا
اَلأَصْحَاحُ 10 الآيات 3-15.