1)
أسئلة عن الخليقة
إعداد
د. القس / سامي منير اسكندر
عن كتاب علم اللاهوت النظامي (بتصرف وتبسيط)
تأليف: القس جيمس أَنِس
اسم المُرَاجِع والمنقِّح:
الدكتور القس منيس عبد النور
راعي الكنيسة الإنجيلية
بقصر الدوبارة. القاهرة
السؤال الثَّانِي عَشَرَ
عرف مذهب «النشوء
الذاتي»؟
هُوَ
أن الكون بكُلّ مَا فيه مَنْ الأجناس الحية عَلَى أنواعها نشأ بالتقدم البطيء مَنْ
درجة لأخرى فِي سلم الارتقاء، وأن جميع أنواع الحياة النباتية والحيوانية والعقلية
أيضاً نشأت عن تغيرات طفيفة كَانَتْ تزداد وتتقدم مَنْ دور لآخر إِلَى أن بلغت
حالتها الحاضرة مَنْ الكمال. أي أن كُلّ مَا فِي الكون نشأ مَنْ الطبيعة نفسها.
وينقسم أهل هذا المذهب إِلَى قسمين، أحدهمَا ينكر لزوم تدخل الْخَالِق فِي إبداع
أصول الحياة، والآخر يسلم بلزوم تدخله فِي خَلَقَ خلايا الحياة الأصلية فقط، وينكر
تدخله بعد ذلك، فيكون تاريخ الكون طبيعياً. وعلَّلوا تنوّع الأحياء بطرق مختلفة،
فقال قوم إن الأنواع نشأت مَنْ عمل أسباب خارجية فِي الأحياء أوجبت النمو والتقدم.
وهُوَ قول لا يلقى اعتباراً الآن عند أهل العلوم الطبيعية. وقال غيرهم (وأشهرهم
دارون الإنجليزي) إن تنوع الأحياء نشأ عن الجهاد بينها دفعاً لخطر الفناء بسبب
ازدياد عددها أكثر ممَا تحتمله وسائل المعيشة، فهلك الأضعف وبقي الأقوى والأصح. ولمَا
كان مَنْ دأب مَا بقي أن يتقدم فِي سلم الحياة والارتقاء للسبب المذكور، كان لابد
له مَنْ التقدم البطيء مَنْ درجة لأخرى فِي سلم الكمال، فنشأت عن ذلك أنواع
مختلفة، لكلٍّ منها صفة التقدم لحالة أفضل وأقوى، إِلَى أن صارت النباتات
والحيوانات عَلَى مَا نراها مَنْ التنوع المختلف الآن. وكذلك حدث مع البشر، حتى أن
دارون قال بنشوء الإِنْسَانَ مَنْ الحيوان. غير أن بعض تابعيه اعتقدوا أن هذا
الرأي يصدق عَلَى النباتات والحيوانات فقط، لا عَلَى الإنسان. وهذان الرأيان أفضل مَنْ
المذهب الإلحادي، لأنهمَا يحتملان اعتقاد وجود خالق أبدع الحياة أصلاً وأودع فيها
قوة التوالد. عَلَى أنهمَا لا يزالان دون إثبات، بل إن الأدلة عَلَى عدم صحتهمَا أقوى
مَنْ الأدلة عَلَى صحتهما.
v
أدلة عَلَى خطأ مذهب
النشوء الذاتي
فِي
هذا المذهب قولان، ونورد الأدلة عَلَى خطأ كُلّ منهما:
القول الأول: «ليس للخالق يدٌ فِي خَلَقَ العالم». وكُلّ الأدلة التي تثبت
وجود الله وخَلَقَه تبرهن بُطل هذا المذهب، الَّذِي يقول إن المادة ذات قوى حيوية
وعقلية. كمَا أن كُلّ الأدلة عَلَى خطأ الفلسفة المادية أدلة عَلَى خطئه أيضاً. ولمَا
كان يقول إن الله لا يتدخل عَلَى الإطلاق، لا فِي الطبيعة ولا فِي البشر ولا فِي كُلّ
مَا يتعلق بهما، كَانَتْ الأدلة عَلَى تدخل الله فِي أمور البشر مثل العجائب
والنبوات وأعمال العناية كافةً، تدل عَلَى خطأ هذا القول. ومَنْ الأدلة عَلَى خطئه
(غير مَا ذُكر) مَا يأتي:
أ)
إنه ينسب للمادة الخالية مَنْ الحياة قوةً عظيمة
أصلية وعقلاً وقصداً وأهدافاً سامية، ونحو ذلك ممَا لا يجوز أن يُنسب
إلا إِلَى للخالق.
ب)
ينسب للطبيعة قوة الانتقال مَنْ حالٍ لأخرى تختلف
عن الأولى بخواص لا يمكن أن تنشأ إلا بقدرة الْخَالِق، فبحسبه تتحول
المادة الخالية مَنْ النظام أو الحياة (مَنْ نفسها) إِلَى ذات قوات طبيعية،
كالقوات الميكانيكية والكيماوية، ثُمَّ تتحول هذه إِلَى الحياة النباتية، ثُمَّ إِلَى
الحياة الحيوانية، ثُمَّ إِلَى الحياة العاقلة كحياة الإنسان! وهذا التقدم الذاتي
التدريجي فِي الطبيعة بدون تدخل الْخَالِق لا يقبله العقل السليم، ولا يشهد بصدقه
لسان حال الطبيعة، فليس لهذا الارتقاء فِي هذا السلَّم مَا يثبته ولا مَا يرجحه
ولا مَا يدل عَلَى إمكانه.
ج)
إنه يستلزم التسليم بإمكان التوالد الذاتي الَّذِي
تناقضه كُلّ الأدلة العلمية، وقد فشلت كُلّ المحاولات فِي إثبات صدقه.
د)
إنه يستلزم عدم وجود مَا يميّز المادة عن الروح،
ولا الغريزيات عن العقليات، ولا الحياة الحيوانية عن الحياة الروحية، ففيه الغرائز
البهيمية تساوي إحساسات البشر القلبية وعواطفهم الروحية، وعبادة البشر لله تشبه
محبة حيوانٍ لصاحبه، والفرق بينهمَا فِي الدرجة لا فِي النوع.
ورفض
الفلاسفة والطبيعيون مبادئ وأركان هذا المذهب لأسباب علمية، ومَنْ مفنديه دارون
وهكسلي وتندل وفِرْجو الذين لو أمكنهم التسليم به لمَا تأخروا عن ذلك.
يقول المذهب الثاني إن الله خَلَقَ أولاً خلايا الحياة، ثُمَّ
تركها لنفسها، فانتظمت مَنْ ذاتها عَلَى مَا هي عليه بالارتقاء، بحسب قوانين
طبيعية. وهُوَ مرفوض بأدلة قوية منها:
أ)
الحقائق الطبيعية التي تأسس عليها ضعيفة،
مثل أساس ضيق جداً لبناء واسع! ولمَا رأى دارون أن قانون الانتخاب الطبيعي لا يكفِي
لتعليل كثير مَنْ أسرار الحياة وغرائب التنوُّع افترض انتخاب الأنواع عَلَى أساس
افتراض الانتخاب الطبيعي. ومع ذلك بقيت حقائق كثيرة غير قابلة للتعليل بموجب هذا
المذهب، بل تبين خطؤه بسبب البُعد الكبير الشاسع بين الأنواع والأجناس الحية كمَا يقول
علم الجيولوجيا، فكثيراً مَا نشاهد أنواعاً كاملة تتلاشى، وأنواعاً أخرى تبدأ
بكثرة دون دليل عَلَى الانتقال البطيء مَنْ نوع لآخر، وليس لذلك تفسير بموجب مذهب
النشوء. كمَا توجد فِي مملكتي الحيوان والنبات أجناس وأنواع لا يمكن تعليلها بموجب
مذهب النشوء. وقبول هذا المذهب يحتاج إيماناً بصحته أعظم جداً مَنْ الإيمان الَّذِي
يحتاجه الإيمان بالدين. وأهل هذا المذهب يعتنقونه بالتسليم لا باليقين، كأنهم
يعيشون بالإيمان لا بالعيان!.. ونشأ عند أهل العلوم الطبيعية اعتراض آخر عَلَى المذهب
الداروني له اعتبار عظيم لديهم، وهُوَ أن هذا المذهب يستلزم بالضرورة لإتمام
مطالبه مدة مَنْ الزمان أطول جداً مَنْ المدة التي يقدر أهل العلوم الطبيعية أن
يسلموا بها. فحرارة الشمس ومدة دوامها يمنع اعتقاد وجود النظام الشمسي مدة بمقدار
المدة التي يقتضيها المذهب الداروني. وقال علماء النبات إن مدة وجود الحياة
الحيوانية عَلَى الأرض لا تزيد عَلَى خمسين مليون سنة. ومع أن هذه المدة طويلة
جداً، لكنها أقل ممَا يقتضيه المذهب الداروني، لأنه يستلزم مدة أطول بكثير.
ب)
ثبوت الأنواع المطلق عَلَى الدوام مَنْ أقوى
الأدلة عَلَى خطأ هذا المذهب، فقد برهن علم الجيولوجيا أن الأنواع
الحية لا تزال منذ وجود الإنسان إِلَى الآن عَلَى مَا كَانَتْ بدون اختلاط ولا
انتقال. وضاعت كُلّ محاولات أهل العلوم الطبيعية أن يبيّنوا إمكان انتقال الأنواع.
نعم بيّنوا إمكان حدوث الانتقال بين فروع نوع واحد، غير أنهم لم يقدروا أن يبرهنوه
بين نوعين مختلفين، بدليل امتناع توالد مولود مَنْ نوعين. ولو صح هذا المذهب
لرأينا تحوُّل نوع لآخر فِي طبقات الأرض الصخرية المملوءة مَنْ بقايا متحجرات
الأنواع الحية فِي الأدوار القديمة. ولكن لم يوجد مَنْ تِلْكَ البقايا مَا يكفِي لإثبات
هذا المذهب. فلو صحَّ أن الإنسان متسلسل مَنْ الحيوان لوجب أن تكون الأرض مملوءة مَنْ
الأدلة عَلَى هذا التسلسل، مثل وجود هياكل قرود كثيرة متحجرة، لأن الإِنْسَانَ
حديث العهد، فكنّا ننتظر أن بقايا أسلافه توجد بكثرة فِي الطبقة العليا مَنْ الأرض،
حتى لا يبقى شك فِي علاقة الإنسان بالقرد. وهذا مَا حمل هيجل الألماني المتمسك
بمذهب دارون والمشهور بإلحاده أن يفترض وجود نوعٍ يكون حلقة متوسطة بين القرود
والبشر، سماه «القرد الإنسان» وزعم أن كُلّ آثار
له ضاعت!
ج)
ينتج عن الاعتقاد بصحة هذا المذهب أن الحياة العقلية
والروحية والضمير قد صدرت مَنْ غريزة الحيوانات. وهُوَ يخالف شهادة الوحي فِي
أصل الإنسان، وليس له دليل يثبته أو يرجحه، وليس فِي تاريخ البشر مَا يثبت مذهب
دارون، لأن تقدم البشر فِي القرون الماضية لم يكن بموجب ناموس الانتخاب الطبيعي
وبقاء الأصلح، بدليل أنهم لا يزالون عَلَى مَا كانوا عليه، وأن عوامل تقدمهم هي مَنْ
التعليم المُنزَل والوسائط الدينية والأخلاقية. ويؤيد ذلك انحطاط بعض الأمم
العظيمة فِي القرون الماضية وتلاشي بعضها بسبب توغلهم فِي الرذائل. ولا نبني رجاء
البشر فِي التقدم عَلَى فعل القانون الداروني فينا، بل عَلَى فعل التعاليم الإلهية
والمبادئ الأخلاقية والنعمة السماوية والاجتهاد فِي الانتصار عَلَى الميول
الطبيعية والخضوع التام لله وطلب إرشاده.
0 التعليقات:
إرسال تعليق