• اخر الاخبار

    هل يُعقل أَنْ أجرة الْخَطِيَّةَ مَوْتِ؟ الفصل العاشَّرِّ ما هِيَ الْخَطِيَّةَ الأصلية والفعلية؟ د. القس / سامي منير اسكندر







    1

    هل يُعقل أَنْ

    أجرة الْخَطِيَّةَ مَوْتِ؟


      إعداد

    د. القس / سامي منير اسكندر



    باحث ومحاضر فِي الدين المقارن



    الفصل العاشَّرِّ



    ما هِيَ الْخَطِيَّةَ الأصلية والفعلية؟ 

    يعد التساؤل عَنْ كنه الطبيعة التي يولد بها الطفل، أخطر وأوسع الموضوعات فِي القرن الحالي، وتتفق النتائج بشكل عام مع تعاليم الْكِتَابِ التي عرضناها فِيما سبق، فالكل متفقون عَلَى:


    1-  طبيعة الشَّرِّ الموروثة فِي الإِنْسَانٌ، والنزوع إِلَى الشَّرِّ الكامن فِي الذَاتِ البشَّرِّية.


    2- وضرورة تهذيب الطفل أخلاقياً، وحتمية النضال لتحقيق المواقف الأدبية والتضامن الأخلاقي للمجتمع،

    3-  وخطورة الانْحِرَافَ الأخلاقي المطلق، والتحكم فِي عواطف ومشاعر الإِنْسَانٌ.

    ويتفق علماء الترَّبَّية الْمَسِيحِية عَلَى أَنْ النزعات الشَّرِّيرة الوراثية لا يمكن التحكم فيها بالترَّبَّية إلا عَنْ طريق عمل النعمة الفائقة، وأَنْ مَا تصبو إليه الترَّبَّية الْمَسِيحِية هُوَ أَنْ تصبح أداة لحفظ الطفل عَلَى صلة بالقوة الإلهية.

    الوراثة:

    من المتوقع أَنْ يكون لقوى مدمرة مثل هَذِهِ عند الفرد تأثير سيئ عَلَى نسله، ومع ذَلِكَ لا يذكر الإِنْجِيلِ عملياً شيء عَنْ الوراثة بمفهومها السيكولوجي أَوْ البيولوجي، ولكنه يؤكد الْحَقَّيقة الكبرى وهِيَ أَنْه بخَطِيَّةَ آدَمَ الأَوَّلُ صار كل الجسد ـ أَيْ الإِنْسَانٌ الطَّبِيعِيَّ ـ خاطئاً، ولا يذكر شيئاً آخر عَنْ الميول الأثيمة الخاطئة الموروثة عَنْ خطايا معينة مِنْ الوالدين، لكن العلم الحديث يؤيد هَذَا الرأي، فهناك أطفال ولدوا غير أسوياء فِي قواهم العقلية، وغير مستقري العواطف، أَوْ معدوميها، ولدى بعضهم شهوات أكثر جموحاً مِنْ الآخرين، ومع ذَلِكَ فقد تم احراز تقدم ضئيل فِي رَّبَّط ذَلِكَ بالصفات الشخصية الخاصة فِي حَيَاةُ الوالدين. فقد يرث بعض النَّاسُ الجنون ـ ويبدو أَنْ ذَلِكَ متعلق بالعائلة أَوْ بفصيلة الدم وبالجينات ـ لكن مِنْ الصعب الرَّبَّط بينه وبين خطايا شخصية خاصة فِي الوالدين.

    الوراثة الاجتماعية:

    يوجد فِي الإِنْجِيلِ الكثير عما نسميه اليوم بالوراثة الاجتماعية للخَطِيَّةَ، أَيْ انتقال الْخَطِيَّةَ للآخرين عَنْ طريق القدوة والتعليم والإيحاء بكل أشكاله، وآراء الجماعة والأذواق والقيم والمعايير والأعراف، وبالاختصار عَنْ طريق الاتصالات بكل معانيها الاجتماعية. والإِنْجِيلِ مليء بالتحذيرات مِنْ المعاشَّرِّات الرديئة، ومن قوة القدوة الشَّرِّيرة، ومن سطوة العادات الخاطئة والأعراف الاجتماعية غير السليمة، ومن قوة خميرة التعاليم الشَّرِّيرة والعقائد الخاطئة، ولم يؤكد كِتَابِ بأقوى مما أكد الإِنْجِيلِ، عَلَى واجب ترَّبَّية الأطفال وتنشئتهم عَلَى التقوى، وتهذيبهم فِي الْحَقَّ، وتدريبهم بالقدوة عَلَى الممارسة الفعلية للأعمال الصالحة. وتتجه كل تحريضات الإِنْجِيلِ إِلَى الأتقياء فِي عائلات وجماعات لها فكرها ومعاييرها وقيمها وولاؤها، وفصل هَذِهِ الجماعات عَنْ كل صلة بالشَّرِّ. وتتفق جميع الصور التي يقدمها الإِنْجِيلِ لمدينة "سدوم" وللعالم قبل الطوفان ولعالم الكنعانيين الَّذِي كَانَ لابد مِنْ القضاء عليه قبل استقرار شعب اللَّهِ فِي أرض الموعد، أَوْ للمجتمع الروماني كما رآه الرسول بولس، اتفاقا تاماً، لَيْسَ مع الْحَقَّ فحسب، بل أَيْضاً مع مَا توصل إليه علم الاجتماع الحديث عَنْ القانون الاجتماعي. وتلقي هَذِهِ الْحَقَّيقة المرعبة - عَنْ قوة الْخَطِيَّةَ القاتلة مِنْ خلال شمول تأثيرها فِي كل قوانين الوراثة الاجتماعية المعترف بها - الضوء عَلَى الأمر الإلهي بالقضاء عَلَى الكنعانيين، وعَلَى تحريض المؤمنين عَلَى أَنْ يعيشوا بالانفصال عَنْ الْعَالَمِ.

    ويجمع الإِنْجِيلِ كل قوى الشَّرِّ عَنْ طريق الوراثة الاجتماعية، تحت تعبير واحد هُوَ "الْعَالَمِ" أَيْ جموع النَّاسُ البعيدين عَنْ اللَّهِ والمعادين للمسيح، وكل دائرة الممتلكات الأرضية والعقارات والثروات واللذَاتِ، التي رغم أَنَّهَا جوفاء ضعيفة وعابرة، إلا أَنَّهَا تثير الرغبة وتغري بالبعد عَنْ اللَّهِ، وتعتبر عقبات فِي طريق ملكوت الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. إن كَلِمَةٍ "الْعَالَمِ" بهَذَا المفهوم شائعة فِي إِنْجِيلُ يُوحَنَّا ورسائل يوحنا وسائر رسائل الْعَهْدُ الْجَدِيدِ (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا7: 7، رِسَالَةُ يُوحَنَّا الرَّسُولِ الأُولَى2 الآيَاتُ 15-17، رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ الأُولَى إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ1: 21، رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ غَلاَطِيَّةَ6: 14، رِسَالَةُ يَعْقُوبَ الرَّسُولِ1: 27).

    والقوانين الاجتماعية وقوانين التطور الفردي لَيْسَت شَّرِّاً فِي ذَاتِها، فهِيَ قوانين اللَّهِ الكامنة فِي المجتمع، ولكنها بسبب فساد الْخَطِيَّةَ تحولت ضد اللَّهِ وضد الإِنْسَانٌ. وفِي المجتمع الْمَسِيحِي يجب أَنْ تكون هَذِهِ القوانين بركة لامتداد ملكوت اللَّهِ. ويسعى علم الاجتماع الْمَسِيحِي لاستخدام هَذِهِ القوانين لإتمام مقاصد اللَّهِ. ومن هنا نشأت فكرة العائلة الْمَسِيحِية، والمجتمع الْمَسِيحِي والترَّبَّية الْمَسِيحِية، والأدب والفن والصناعة...الْمَسِيحِية.

    وتتفق هَذِهِ الفكرة مع الْعَهْدُ الْقَدِيمِ فِي النظر إِلَى شَّرِّور المجتمع كما لو كانت خَطِيَّةَ فرد نظراً لتضامن البشَّرِّية كلها([1])، وإن كَانَ هناك تصحيح للاستخدام الخاطئ لهَذَا المبدأ: «كل إِنْسَانٌ بخطيته يقتل»([2])، والتأكيد بأن الفرد سوف يعامل طبقاً لما فعله: «النَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ»([3])، «بر البار عليه يكون وشَّرِّ الشَّرِّير عليه يكون»([4]). ويتفق هَذَا المبدأ مع مَا يميل إليه علماء الاجتماع مِنْ تقسيم وتوزيع المسئولية بين الفرد والجماعة، مع اعتبار الفرد مسئولاً عَنْ نفسه.

    الْخَطِيَّةَ الأصلية:

     1- نظريات الحالة التي يولد بها البشَّرِّ:

    يقَوْلُ الفلاسفة الرواقيون([5]) والبيلاجيون: يولد الإِنْسَانٌ بريئاً، مَثَله فِي ذَلِكَ مَثَل آدَمَ قبل السُّقُوطِ فِي الْخَطِيَّةَ، إنما أعماله هِيَ التي تكوّن صفاته. لأنه لو كَانَ قَدْ وُلد فاسداً، لكانت حياته بأسرها حَيَاةُ الشَّرِّ والإجرام.

    ويقَوْلُ الأرمينيون([6]): وإن كَانَ الإِنْسَانٌ يولد بريئاً، لكن يكمن فِي طبيعته قصور يحول بينه وبين السُّلُوكَ بالكمال، وهَذَا سبب ارتكابه الشَّرِّ فِي بعض الأحيان.

    ويقَوْلُ جان جاك روسو ولتير وشارل فورَّبَّيه وغيرهم: يولد الإِنْسَانٌ كاملاً (أي لَيْسَ بريئاً فحسب، بل وكاملاً أَيْضاً). إنما إِذَا عاش فِي بيئة شَّرِّيرة يتسرَّبَّ إليه الشَّرِّ منها. فالْخَطِيَّةَ إِذَا لَيْسَت أصلية فيه بل طارئة عليه، فمن الممكن إزالتها بالتنوير والتعليم.

    والرأي الأَوَّلُ لَيْسَ صواباً لأَنَّ أعمال الإِنْسَانٌ لا تكوّن صفاته، بل تصدر عنه، فالإِنْسَانٌ لا يكون قاتلاً فِي الظاهر إلا إِذَا كَانَ لديه الميل إِلَى القسوة والانتقام فِي الباطن. فصفات الإِنْسَانٌ سابقة لأعماله ولَيْسَت لاحقة لها. فهُوَ خاطئ بالقصد قبـل أَنْ يكون خاطئاً بالفعل ، كما أَنْ عَدَمِ ارتكاب كل إِنْسَانٌ شَّرِّوراً شنيعة لَيْسَ دليلاً عَلَى أَنْ البشَّرِّ يولدون أبرياء. فالْخَطِيَّةَ لَيْسَت هِيَ الشَّرِّ الشنيع فحسب، بل هِيَ أَيْضاً انْحِرَافَ النفس إِلَى الشَّرِّ وانْحِرَافَها عَنْ الْخَيْرِ.

    والرأي الثاني لَيْسَ صائباً فمن غير المعقَوْلُ أَنْ يكون فِي طبيعتنا قصور يحول بيننا وبين السُّلُوكَ بالكمال، ونكون أبرياء. بل لابد أَنَّنَا نولد وفِي طبيعتنا ميل إِلَى الْخَطِيَّةَ، لأَنَّه لا يمكن أَنْ نفعلها إلا إِذَا كَانَ فينا ميل إليها، إذ أَنْ لكل معلول علة ولكل عمل سبب.

    والرأي الثالث لَيْسَ صواباً كذَلِكَ، لأَنَّ البيئة الشَّرِّيرة وإن كَانَ لها تأثير عظيم عَلَى الإِنْسَانٌ، لكن لَيْسَت هِيَ التي تولّد الشَّرِّ فيه. والدليل عَلَى ذَلِكَ أَنْ الأطفال الَّذِين لا يعرفون بعد شيئاً عَنْ الحَيَاةُ الدنيا، تبدو عليهم إمارات الأنانية والكبرياء ومحبة الذَاتِ، والحسد والطمع والعناد. كما أنهم يسطون عَلَى ممتلكات الغير ويتشاجرون معهم مدفوعين فِي ذَلِكَ كله بغرائز كامنة فِي نفوسهم. ولا عبرة بالقَوْلُ إن تصرفات الأطفال المذكورة هِيَ مجرد نقائص، أَوْ أَنْ الأطفال لا يدركون أَنْ تصرفاتهم هَذِهِ هِيَ خَطِيَّةَ، لأَنَّ النقائص خطايا، وعَدَمِ إدراك الخطايا لا يقلّل مِنْ أَنَّهَا خطايا. الغريزة فِي ذَاتِها لَيْسَت خَطِيَّةَ، لأَنَّ اللَّهِ هُوَ الَّذِي أودعها فِي الإِنْسَانٌ لأجل خيره، إنما الْخَطِيَّةَ هِيَ استخدام الغريزة فِي غير مَا أودعها اللَّهِ لأجله.

    وإِذَا كَانَ الأمر كذَلِكَ، أتضح لنا أَنْ الإِنْسَانٌ يولد وبه ميل إِلَى الْخَطِيَّةَ، وهَذَا الميل وإن كَانَ لا يبدو بوضوح فِي الصغر، غير أَنْه يأخذ فِي الظهور كلما شبَّ الإِنْسَانٌ ونما. وهُوَ مثل السم الكامن فِي الثعبان، فَإِنَّهَ لا يَرِد إليه مِنْ الخارج، بل أَنْ الثعبان يولد وفِي جسمه استعداد لتكوينه. وكل مَا فِي

    الأمر، أَنْ هَذَا السم لا يظهر بنتائجه المميتة، إلا إِذَا بلغ الثعبان سناً معينة.

    ومما يؤيد صدق هَذَا الاستنتاج

    (أ) إن الَّذِين قالوا بسلامة الفطرة الإِنْسَانٌية وكمالها، وبذلوا كل مَا لديهم مِنْ جهد لتحسين حالة الفقراء والبؤساء، لاقوا مِنْ أولئك وهؤلاء الكثير مِنْ المتاعب والمضايقات، فخابت آمالهم الطيبة فيهم جميعاً، كما حدث مع سان سيمون وروبرت أوين وغيرهما.

    (ب) لا يقدر التعليم أَنْ يستأصل الْخَطِيَّةَ مِنْ نفس الإِنْسَانٌ، بل يعمل فقط عَلَى إخفاء بعض مظاهرها الشنيعة. والدليل عَلَى ذَلِكَ إن المتعلمين يفعلونها كما يفعلها غيرهم سواء بسواء. وكل مَا فِي الأمر أنهم يتستَّرون بفعلها وراء أسماء مفتعلة مثل المدنية أَوْ الحرية أَوْ المصلحة الذَاتِية أَوْ الحكمة البشَّرِّية، مثلهم مثل القبور التي تحيطها الأزهار والرياحين، بينما لا يوجد فِي باطنها إلا العفونة!

    وقد أدرك كثير مِنْ الفلاسفة أَنْ فِي الإِنْسَانٌ ميلاً للشَّرِّ يسيطر عَلَى كيانه بأسره، فقال أرسطو: أكثر أعمال الإِنْسَانٌ محكومة بالعواطف والشهوات، ولذَلِكَ فهُوَ يخطئ مهما علم عقله بضرر الخطأ. فالإِنْسَانٌ يفكر جيداً ويرشده فكره إِلَى الصواب، لكن تتغلب عليه شهوته الكامنة فيه فتغويه. وقال سانت هيلير لَيْسَ مَا يقع فيه الإِنْسَانٌ مِنْ إثم ناشئاً عَنْ خطأ فِي الموازنة بين اللذة الحاضرة والآلام المستقبلة، ولا ناشئاً عَنْ جهل بطبيعة الأشياء. إنما منشؤه فساد فِي الخُلُق يحمل الإِنْسَانٌ إِلَى تفضيل الشَّرِّ عَلَى الْخَيْرِ، وهُوَ عالم بهما وبنتائج كلٍ منهما. فَإِنَّ الشَّرِّير لا يجهل البتة مَا يفعله مِنْ سوء بل يشعر به وبما يلحقه مِنْ خسارة بسببه، ومع ذَلِكَ يسعى إِلَى هَذِهِ الخسرة وهُوَ آسف. وقال غيره: لَيْسَ النَّاسُ الَّذِين نشأوا فِي الغابات بعيدين عَنْ الأخطاء التي درج عليها غيرهم مِنْ سكان المدن، ولا هم أبرياء كما يُقال، بل هم حيوانات ماكرة. وهم لَيْسَوا أفضل مِنْ المتحضّرين فِي شيء مِنْ الناحية الأخلاقية. وقال هكسلي: الاعتقاد أَنْ الأطفال يُولدون فِي حالة الصلاح، وأَنْ المجتمع الفاسد هُوَ الَّذِي ينحرف بهم إِلَى الشَّرِّ، لَيْسَ له نصيب مِنْ الصواب. وقال سير سيدني سميث: يأتي الأطفال إِلَى الْعَالَمِ وفِي طبيعتهم العناد والشَّرِّ والأنانية.

    2 - آراء الَّذِين ينكرون تسرَّبَّ الْخَطِيَّةَ مِنْ آدَمَ إِلَى البشَّرِّ جميعاً:

    أما الَّذِين أنكروا تسرَّبَّ الْخَطِيَّةَ مِنْ آدَمَ إِلَى البشَّرِّ جميعاً، فقد ذهبوا مذاهب متعددة، نوردها هنا، مع الرد عليها:

    (أ) لم يولد البشَّرِّ مِنْ رجل واحد مثل آدَمَ، حتى كَانَ مِنْ الجائز أَنْ يشتركوا معاً فِي طبيعة خاطئة واحدة.

    الرد: وجود أصل واحد للبيض والزنوج([7])، ووحدة أصل اللغات([8])، وتشابه النَّاسُ جميعاً فِي أجسامهم وكَيْفَية تغذيتهم وتناسلهم ودرجة حرارتهم وسرعة نبضهم (كما نعلم جميعاً)، كل ذَلِكَ يدل عَلَى أنهم مولودون مِنْ أصل واحد، أَوْ بالحري مِنْ رجل واحد.

    (ب) منذ الْقَدِيمِ خلق اللَّهِ أرواح البشَّرِّ جميعاً وأوصاها أَنْ تطيعه وتحفظ وصاياه، غير أَنَّهَا تمردت عليه وخالفت هَذِهِ الوصايا، لذَلِكَ أوجدها فِي ذرية آدَمَ ليعطيها فرصة أخرى لإظهار طاعتها له. فتكون خطايا البشَّرِّ جميعاً خطايا ذَاتِية لا شأن لها بآدَمَ.

    الـرد: هَـذَا الـرأي يعـد غـريباً ولَيْسَ مقـبولاً لأَنَّه لا يـوجـد أَيْ دلـيـل ديني أَوْ

    عقلي أَوْ تاريخي يثبت أَنْه كَانَ لنا وجود فعلي قبل ولادتنا مِنْ أمهاتنا، أَوْ أَنَّنَا فعلنا خَطِيَّةَ مَا قبل ولادتنا منهن.

    (ج) وجود الطبيعة الخاطئة فِي البشَّرِّ لَيْسَ ناشئاً عَنْ ولادتهم مِنْ آدَمَ، بل عَنْ عِصْيَانٍهم الشخصي، لأَنَّ ناسوت آدَمَ وناسوتهم جوهر عام واحد.

    الرد: (أ) بنى أصحاب هَذَا المذهب قَوْلُهم المذكور عَلَى المُثل الأفلاطونية، فزعموا([9]) أَنْ اللَّهِ أوجد البشَّرِّية قبل أفرادها، مثَلها فِي ذَلِكَ مَثل المغناطيسية التي أوجدها فِي الْعَالَمِ قبل ظهور حجر المغناطيس. وبناءً عَلَى ذَلِكَ يقَوْلُون إن البشَّرِّية الْقَدِيمِة تحل بكل خواصها فِي كل إِنْسَانٌ يُولد فِي الْعَالَمِ، كما تحل المغناطيسية بكل خواصها فِي حجر معيّن، فيصبح حجر المغناطيس. وهَذَا المذهب لا نصيب له مِنْ الصواب، لأَنَّ حجر المغناطيس لم ترد إليه المغناطيسية مِنْ الخارج فِي أَيْ عصر مِنْ العصور، بل وُجد والمغناطيسية كامنة فيه.

    (ب) لَيْسَ هناك دليل عَلَى أَنَّنَا كنا متَّحدين مع آدَمَ فِي الجنة بأي شكل مِنْ الأشكال، أَوْ أَنَّنَا أخطأنا بالفعل معه هناك. فضلاً عَنْ ذَلِكَ فكل منا مستقل بذَاتِ. فلآدَمَ، كما لكل واحد منا، شخصيته التي لا يشترك معه فيها إِنْسَانٌ غيره. فالطبيعة الخاطئة، وإن كانت قَدْ انتقلت إلينا مِنْ آدَمَ، غير أَنَّنَا لم نرتكب شخصياً أية خَطِيَّةَ عملها آدَمَ أَوْ شخص غيره.

    (د) سبب الْخَطِيَّةَ هو: اضطراب فِي النفس أَوْ فِي الغدة النكفية، أَوْ مركب النقص الموجود فِي اللاوعي.

    الرد: اضطراب النفس والغدة النكفية، وأي مركب نقص فِي اللاوعي، لا يؤدي إِلَى عمل الْخَطِيَّةَ إلا إِذَا كَانَ الميل إليها قابعاً فِي الطبيعة البشَّرِّية، فاضطراب مياه البحار بواسطة العواصف لَيْسَ هُوَ الَّذِي يكوّن الأعشاب البحرية فِي البحار، بل يهيئ لها فقط سَبِيلِ الظهور عَلَى سطح البحار.

    لقد حاد أصحاب هَذِهِ المذاهب عَنْ الصواب. أما الْحَقَّيقة التي شهد بها وأيدها الاختبار، فهِيَ أَنْ الطبيعة الخاطئة التي فينا قَدْ تسرَّبَّت إلينا بالولادة مِنْ آدَمَ الَّذِي تناسلنا منه جميعاً.

    كَيْفَ انتقلت الْخَطِيَّةَ؟

    ولادة الإِنْسَانٌ بطبيعة تميل إِلَى الْخَطِيَّةَ: بناءً عَلَى قانون الوراثة لا يمكن لكائن أَنْ يلد آخر مغايراً له، فالخنزيرة لا يمكن أَنْ تلد حملاً، والشوك لا يمكن أَنْ ينتج عنباً. وبما أَنْ آدَمَ الَّذِي وُلد منه البشَّرِّ جميعاً كَانَ قَدْ فقد بعِصْيَانٍه حَيَاةُ الاستقامة التي خلقه اللَّهِ عليها وأصبح خاطئاً قبل أَنْ ينجب نسلاً، فمن البديهي أَنْ يولد أبناؤه جميعاً خطاة بطبيعتهم نظيره، لأَنَّنَا مهما جُلنا بأبصارنا فِي الكون، لا نجد لسُنَّة اللَّهِ تبديلاً. ولذَلِكَ قال الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ: «بإِنْسَانٌ واحد دخلت الْخَطِيَّةَ إلى الْعَالَمِ»([10]). وشهد داود النبي بهَذِهِ الْحَقَّيقة فقال: «بالإثم صُوّرت وبالْخَطِيَّةَ حبلت بي أمي»([11]). وقد أدرك هَذِهِ الْحَقَّيقة كثير مِنْ الفلاسفة والعلماء، فقال هكسلي وكانْت: هناك أصل للشَّرِّ فِي الطبيعة البشَّرِّية، مما يدل عَلَى أَنْ قصة سقوط آدَمَ فِي الْخَطِيَّةَ صحيحة. وقال الرسول بولس: «لَيْسَ بَارِّ وَلا وَاحِدٌ. لَيْسَ مِنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللَّهِ. الْجَمِيعُ زَاغَوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاحاً لَيْسَ وَلا وَاحِدٌ»([12]).

    ما هِيَ نتائج ولادة البشَّرِّ بالْخَطِيَّةَ؟

    تسرَّبَّت الْخَطِيَّةَ وتتسرَّبَّ إِلَى البشَّرِّ بالوراثة. وبما أَنْ قانون الوراثة قانون عام تخضع له جميع الكائنات الْحَيَّةُ، فمن البديهي أَنْ الْخَطِيَّةَ تسرَّبَّت إِلَى كل البشَّرِّ، فصاروا جميعاً خطاة بأفعالهم كما وُلدوا خطاة بطبيعتهم. ولذَلِكَ قال الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ: لَيْسَ بار ولا واحد. لَيْسَ مِنْ يفهم (فهماً روحياً). لَيْسَ مِنْ يطلب اللَّهِ. الجميع زاغوا وفسدوا معاً، لَيْسَ مِنْ يعمل صلاحاً، لَيْسَ ولا واحد..لأَنَّه لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد اللَّهِ([13]). وقال داود النبي للّه: لا تدخل فِي المحاكمة مع عبدك، فَإِنَّهَ لن يتبرر قدامك حي([14]). وقد اعتاد النَّاسُ أَنْ يفرِّقوا بين إِنْسَانٌ وآخر، فيقَوْلُون مثلاً: إن هَذَا الإِنْسَانٌ أفضل مِنْ ذاك. لكن لَيْسَ هَذَا هُوَ الحال فِي نظر اللَّهِ، لأَنَّه لَيْسَ هناك واحد مِنْ البشَّرِّ لم يفعل خَطِيَّةَ واحدة فِي حياته. ومن يفعل خَطِيَّةَ واحدة، يكون خاطئاً لا باراً.

    إن «تصور قَلْبِ الإِنْسَانٌ شَّرِّير منذ حداثته»([15]). وقال الرسول بولس: «بِإِنْسَانٌ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةَ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةَ الْمَوْتِ، وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتِ إلَى جَمِيع النَّاس إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ»([16]). وهَذَا يعني أَنْ الْخَطِيَّةَ بدأت فِي عالمنا بآدَمَ أب البشَّرِّ. ويعتبر بولس أَنْ آدَمَ وحَوَّاءَ واحد يمثل البشَّرِّية كلها، فيقَوْلُ: «بِإِنْسَانٌ وَاحِدٍ» معتمداً عَلَى قَوْلُ موسى: «ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُ»([17]). ولم يذكر الإِنْجِيلِ تجرَّبَّة الْحَيَّةُ، ولا معصية حَوَّاءَ، لأَنَّ غايته أَنْ يبيّن أَنْ آدَمَ كَانَ فِي مَا فعله نائباً عَنْ كل نسله. فكل إِنْسَانٌ خاطئ فاسد بطبيعته، وأَيْضاً خاطئ فاسد بأعمال.

    وشَّرِّح القديس أغسطينوس تعاليم الإِنْجِيلِ فِي السُّقُوطِ، فقال:

       1.   خلق اللَّهِ الإِنْسَانٌ عَلَى صورتـه [ فِي المَعْرِفَةَ والبر والقداسة]([18])  فِي تفسير سورة الرحمن، وفِي حديث قدسي يقَوْلُ عَنْ آدَمَ: «كَانَ مختـاراً خـالداً، وخوَّله سلطاناً عَلَى الخلائق مع القدرة عَلَى اختيار الْخَيْرِ والشَّرِّ، وإثبات طبيعته الأخلاقـية».

          2.     ترك اللَّهِ آدَمَ لحرية إرادته، ولما جرَّبَّه إِبْلَيْسَ أخطأ إِلَى اللَّهِ وسقط مِنْ حالة البراءة التي خُلق عليها.

       3.  نشأ عَنْ معصيته ضياع الصورة الإلهية وفساد طبيعته كلها، حتى صار ميتاً روحياً، لا يميل إِلَى الْخَيْرِ الرُّوحِيُّ، وعاجزاً عنه ومضاداً له. وصار أَيْضاً قابلاً  للمَوْتِ جسدياً، وعُرْضة لكل سيئات هَذِهِ الحَيَاةُ والْمَوْتِ الأبدي.

       4.الاتحاد النيابي بين آدَمَ ونسله هُوَ علة مَا حلَّ بهم مِنْ نفس نتائج المعصية التي حلَّت عليه، فَإِنَّهَم يولدون خالين مِنْ صورة اللَّهِ، فاسدين أخلاقـياً، وفِي حال الدينونة([19]).

          5.      لم يرث الإِنْسَانٌ طبيعـة فاسدة فحسب، [بل أخطـأ بأعمالـه وأفعالـه].

       6.  ضياع البرّ الأصلي وفساد الطبيعة، اللذيْن نتجا عَنْ سقوط آدَمَ، وهما عقاب لخطيته الأَوَّلُى (ويمكن أَنْ نقَوْلُ أَنْه نتيجة طبيعية ولَيْسَ عقاباً).

       7.  التجديد، أَوْ الدعوة الفعّالة، هُوَ عمل الروح القدس العجيب الَّذِي تكون فيه النفس مفعولاً لا فـاعلاً. ويتعلّق كله بإرادة اللَّهِ. فيـلزم عَنْ ذَلِكَ أَنْ الخلاص هُوَ مِنْ نعمة اللَّهِ. (والنعمة هِيَ عطية مجانية، مِنْ شخص قادر لآخر عاجز، وفِي نفس الوقت غير مستحق). 






    [1]التَّوْرَاةِ، الْعَهْدُ الْقَدِيمِ فِي الْكِتَابُ الْمُقَدَّسِ، سفر دانيال الإصحَاحُ 9 الآيَاتُ 5ـ11.

    [2]التَّوْرَاةِ، الْعَهْدُ الْقَدِيمِ فِي الْكِتَابُ الْمُقَدَّسِ، سِفْرُ اَلتَّثْنِيَة الإصحَاحُ 24 الآيَةَ 16.

    [3] التَّوْرَاةِ، الْعَهْدُ الْقَدِيمِ فِي الْكِتَابُ الْمُقَدَّسِ، سِفْرُ حِزْقِيَال الإصحَاحُ 18 الآيَةَ 4.

    [4]التَّوْرَاةِ، الْعَهْدُ الْقَدِيمِ فِي الْكِتَابُ الْمُقَدَّسِ، سِفْرُ حِزْقِيَال الإصحَاحُ 18الآيَاتُ 1-33.

    [5]الرواقيون هم أتباع زينو الفِيلسوف اليوناني، وأُطلق عليهم هذا الاسم نسبة إلى الرواق الذي كانوا يجتمعون فِيه، فِي القرن الرابع ق م. أما البيلاجيون فهم أتباع بيلاجيوس الذي ظهر فِي إنكلترا فِي القرن الخامس م.

    [6]الأرمينيون هم أتباع أرمينيوس الذي ظهر فِي هولندا فِي القرن 16 م.

    [7]كما قال السير أرثر كيث وغيره من العلماء.

    [8]كما قال مكس مولر وغيره من العلماء.

    [9]كما قال أفلاطون.

    [10]الإِنْجِيلِ، رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ الإصحَاحُ 5 الآيَاتُ 12-21.

    [11]التَّوْرَاةِ، الْعَهْدُ الْقَدِيمِ فِي الْكِتَابُ الْمُقَدَّسِ، سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، اَلْمَزْمُورُ51 الآيَةَ 5.

    [12]الإِنْجِيلِ، رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ الإصحَاحُ 3 الآيَاتُ 10-12.

    [13]الإِنْجِيلِ، رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ الإصحَاحُ 3 الآيَاتُ 10-12 و22 و23.

    [14]التَّوْرَاةِ، الْعَهْدُ الْقَدِيمِ فِي الْكِتَابُ الْمُقَدَّسِ، سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، اَلْمَزْمُورُ143 الآيَةَ 2.

    [15]التَّوْرَاةِ، الْعَهْدُ الْقَدِيمِ فِي الْكِتَابُ الْمُقَدَّسِ، سِفْرُ التَّكْوِينِ الإصحَاحُ 8 الآيَةَ 21.

    [16]الإِنْجِيلِ، رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ الإصحَاحُ5 الآيَةَ 12.

    [17]التَّوْرَاةِ، الْعَهْدُ الْقَدِيمِ فِي الْكِتَابُ الْمُقَدَّسِ، سِفْرُ التَّكْوِينِ الإصحَاحُ 2 الآيَةَ 5.

    [18]ويتّفق صحيح مسلم مع هـذه الفكرة فِي صحيح مسلم الجزء 10صفحة 293.


    [19]راجع الإِنْجِيلِ، رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ الإصحَاحُ 5 الآيَاتُ 12-19.
    • تعليقات بلوجر
    • تعليقات الفيس بوك

    0 التعليقات:

    Item Reviewed: هل يُعقل أَنْ أجرة الْخَطِيَّةَ مَوْتِ؟ الفصل العاشَّرِّ ما هِيَ الْخَطِيَّةَ الأصلية والفعلية؟ د. القس / سامي منير اسكندر Rating: 5 Reviewed By: د. القس سامي منير اسكندر
    Scroll to Top