الفصل الثاني
لِمَاذَا يَجِبُ أَنْ
يكون تفكيرنا عَنْ الله سليماً؟
مِنْ كتاب
هَلْ يُعْقلُ أَنْ
الْمَسِيحِ هُوَ
الله؟!
إعداد
د. القس سامي منير اسكندر
باحث ومحاضر فِي الدين المقارن
تاريخ
الجنس البشرى يظهر بأًنَّهُ مَا مِنْ شعب ارتفع فوق مستوى ديانته. كَمَا أَنْ التاريخ
الروحي للإِنْسَانِ يظهر بكُلّ جلاء ووضوح أًنَّهُ مَا مِنْ ديانة ارتفعت فوق
مستوى فكرتها عَنْ الله. فالعبادة تكون طاهرة أو منحطة بقدر مَا تكون أفكار العابد
عَنْ الله.
ولذلك
فإِنْ أخطر سؤال يواجه الباحث هُوَ دائماً عَنْ الله نفسه، وأصعب حقيقة عَنْ أَيُّ
إِنْسَانِ ليست مَا يقوله أو يعمله، بَلْ هِيَ مَا يكنه فِي قرارة نفسه عَنْ ماهية الله؟ فنَحْنُ ميالون وفقاً لناموس نفسي
خفي إِلَى السير نحو الصُورَةِ الفكرية الَّتِي نرسمها لله. وهَذَا يصدق لاَ عَلَى
الفرد الْمَسِيحِي فحسب بَلْ عَلَى الجماعة المؤمنين الَّتِي تتكون منها الْكَنِيسَةِ.
وهكذا فإِنْ أفصح شَيْءٍ عَنْ الْكَنِيسَةِ هُوَ فكرتها عَنْ الله، كَمَا أَنْ أعظم
رسالة لَهَا هِيَ مَا تقوله أو مَا لاَ تقوله عنه، فكثير مَا يكون صمتها أبلغ مِنْ
كُلّامها، فهي لاَ يمكن أَنْ تتحاشى الإعلان عَنْ نفسها فيمَا تشهد به عَنْ الله.
ولو
أننا استطعنا أَنْ نستخلص مِنْ أَيُّ إِنْسَانِ جواباً شافياً عَنْ السؤال: ماذا يتبادر لذهنك عِنْدَمَا تفكر فِي الله؟
لأمكننا أَنْ نجزم بالمستقبَلْ الروحي الَّذِي ينتظر ذلك الإِنْسَانِ.
ومِمَّا
لاَ شك فيه أَنْ أقوى فكر يمكن أَنْ يستوعبه العقل البشري هُوَ فكر الله، وأَنْ أقوى
كَلِمَةُ فِي أية لغة هِيَ كَلِمَةُ الله. والفكر والنطق همَا عطية الله للمخلوقات
الَّتِي عملها عَلَى صورته تعالى، وهمَا متصلان به اتصالاً وثيقاً ويستحيل وجودهمَا
بدونه. ومِمَّا يجدر ملاحظته جداً هُوَ أَنْ أول كَلِمَةُ كانت هِيَ الكَلِمَةُ «1وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ
الْكَلِمَةُ اللَّهَ»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا1: 1). ونَحْنُ نتكلم لأَنْ الله
تكلم. فالكَلِمَةُ والفكرة فيه تعالى ولا يمكن فصلها الواحدة عَنْ الأخرى.
ومِنْ
الضروري أَنْ تكون فكرتنا عَنْ الله متفقة قدر الإمكان مَعَ طبيعة ماهية الله. وأَنْ
مَا نقرره مِنْ حقائق فِي قانون إيماننا ليس مهماً كثيراً إِذَا مَا قيس بأفكارنا
الفعلية عنه.
إِنْ
فكرتنا الحقيقية عَنْ الله قد تكون مدفونة تحت أنقاض أفكار دينية تقـليدية وقد
تحتاج إِلَى بحث واع لاكتشافها وتعريتها للفحص.
ونَحْنُ نحتاج إِلَى سبر مؤلم لأغوار نفوسنا إِذَا مَا أردنا أَنْ نكتشف إيماننا
الفعلي بالله.
إِنْ
الفكرة الحقيقية عَنْ الله أساسية جوهرية ليست فقط للمَعْرِفَةِ العقلية بَلْ للحياة
الْمَسِيحِية العملية. فهي لازمة للعبادة لزوم الأساس للبناء، فإِذَا مَا كانت
قاصرة أو غَيْرُ متزنة فلابد أَنْ يتداعى البناء كله يوماً ما.
وأنا أومِنْ
أَنْ مَا مِنْ خطأ فِي التعليم أو قصور فِي تطبيق المبادئ الأخلاقية الْمَسِيحِية
إلا ويرجع فِي الأصل إِلَى أفكار قاصرة أو منحطة عَنْ الله.
وفي
رأيي أَنْ الفكر الْمَسِيحِي الَّذِي ساد فِي منتصف القرن العشرين عَنْ الله لهُوَ
فكر متدهُوَر لدرجة لاَ تليق لعظمة الله العلي وهُوَ يشكل نكبة أخلاقية للمؤمنين
الذين يعترفون بالله. ولو أَنْ مشاكل السماء والأرض تجمعت سوياً وواجهتنا فِي وقت
واحد لكانت شيئاً يسيراً إِذَا مَا قيست بمشكلتنا
الفكرية المتعلقة بالتعرف عَلَى الله: أَيُّ
أًنَّهُ موجود، وعلى أية صُورَةِ هُوَ، ومَا واجبنا كخلائق مسئولة بإزائه؟
والإِنْسَانِ
الَّذِي يتوصل إِلَى الإِيمَانِ الْحَقِيقِيَّ بالله، يعتق مِنْ عشرات الآلاف مِنْ
الاهتمامات الزمنية، والإِنْسَانِ لو رفعت عنه كُلّ الاهتمامات الزمنية، ومَا أكثرها،
فإِنْ الاهتمام بدخول الحياة الأبدية، لاَ يزال يجثم عَلَى صدره، بثقل يفوق جداً
كُلّ الاهتمامات الخاصة بعالمنا.
وهَذَا
الاهتمام البالغ هُوَ يعني واجبه أَنْ يُحِبُّ الله كُلّ أيام
حياته، مِنْ كُلّ قوته، ومِنْ
كُلّ فكره، ومِنْ كُلّ نفسه، وأَنْ يطيعه
طاعة كاملة. وأَنْ يعبده عبادة مقبولة.
مِنْ هذه كُلّها.
إِنْ
الإِنْجِيل (كَلِمَةُ الله) يستطيع أَنْ يرفع
حمل الاهتمام عَنْ الفكر، وأَنْ يعطي جمالاً عوضاً عَنْ الرماد وثياب الحمد بدلاً مِنْ
الروح المنسحقة.
وَلَكِنْ
الإِنْجِيل لاَ يعني شيئاً للإِنْسَانِ حَتَّى يشعر الإِنْسَانِ أولاً بثقل الحمل،
وعِنْدَمَا يبصر الإِنْسَانِ الله العلي مرتفعاً عندئذ يختفي كُلّ وجع وكل حمل. فالأفكار الوضيعة عَنْ الله
تدمر الإِنْجِيل فِي داخل الشخص الَّذِي يعتنق هذه الأفكار.
وليس
بين الخطايا الَّتِي يتعرض لَهَا الإِنْسَانِ خطية أبغض إِلَى الله مِنْ عبادة
الأوثان، فعبادة الأوثان فِي أساسها طعن فِي صفات الله. فالقلب الَّذِي يعبد
الأوثان يفترض أَنْ الله ليس هُوَ الله - وهَذَا فِي حد ذاته خطية خطيرة- ويستبدل الإِلَهُ
الْحَقِيقِيَّ بإلهاً مصنوعاً حسب تصوره هُوَ.
وهَذَا
الإِلَهُ فقد صنعه الإِنْسَانِ بحسب فكره وعلمه والصور الذهنية فِي عقله فقد يكون
إلهاً محباً طاهراً غافراً معيناً عيناه أطهر مِنْ أَنْ تنظر إِلَى الشر، وقد يكون
إلهاً قاسياً وغير طاهر يحلل للإِنْسَانِ النحاسة والزنا.
والإِلَهُ
المصنوع بحسب تصور فكر وقلب الإِنْسَانِ الشرير ينشأ لاَ يمكن أَنْ يكون هُوَ الإِلَهُ
الحقيقية. ولذلك يقول الله فِي المزمور للإِنْسَانِ الشرير: «ظَنَنْتَ أَنِّي
مثْلُكَ»
(مزمور50: 21). ولا شك أَنْ ذلك إساءة خطيرة للإله العلي الَّذِي أمامه
تصرخ السَّرَافِيمُ باستمرار قائلين: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ
الْجُنُودِ» (إشعياء 6: 3).
قد
نظن فِي كبريائنا مخطئين أَنْ عبادة الأوثان فقط هِيَ السجود أمام أشياء ملموسة
لعبادتها، فالشعوب المتحضرة لاَ تقبَلْ ذلك، وَلَكِنْ مَا نقصده عَنْ عبادة
الأوثان فِي الزمان المعاصر احتضان أفكار غَيْرُ صحيحية عَنْ الله لاَ تليق به
سبحأًنَّهُ وتعالي - وهذه الأفكار تبدأ فِي الذهن وقد توجد حيث لاَ يكون هناك عمل
ظاهر للعبادة، ولذلك يقول الإِنْجِيل: «لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللَّهَ
لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ
وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ»
(رومية1: 21).
وبعد
ذلك دخلت عبادة الأوثان فِي شكل البشر والطيور والوحوش والدبابات، بَلْ عبد
أجدادنا المصريين القدماء القرد والعجل والجعران والضفدعة...وَلَكِنْ هذه السلسلة مِنْ
الأعمال المنحطة بدأت فِي العقل والفكر. وليست الأفكار الخاطئة عَنْ الله هِيَ المنبع
الَّذِي تجري منه مياه عبادة الأوثان النجسة فقط، بَلْ هِيَ عبادة الأوثان بعنيها،
فعابد الأوثان يتخيل تصورات عَنْ الله ويتصرف كَمَا لو كان ذلك هُوَ الحق.
إِنْ
الأفكار المنحرفة عَنْ الله سرعان مَا تفسد الديانة الَّتِي تظهر فيها، وتاريخ الشعب
القديم العبرانيين الطويل يظهر ذلك بجلاء كاف، كَمَا يؤيد ذلك تاريخ جماعات
المؤمنين. ومِنْ هنا تظهر الأفكار اللاهُوَتية العميقة لازمة جداً لتلك. فالتفريط فيها بأية درجة يؤدي إِلَى سقوط الجماعات وتهاويها.
فقبَلْ
أَنْ يخبو النور فِي أية مجموعة مِنْ المؤمنين فِي مكان ما، تفسد تعاليمها عَنْ الله.
أَيُّ أَنَّهَا بكُلّ بساطة تجيب إجابة خاطئة عَنْ السؤال: مَا هية الله؟ ومِنْ هنا
تنحدر. ومَعَ أَنَّهَا تظل متشبثة بقانون إيمان سليم اسمياً، إلا أَنْ قانون
إيمانها فِي السلوك والعبادة يغدو فاشلاً فعلاً. ويصبح إيمان أعضائها بالله
مغايراً لَمَّا هُوَ يكون عليه الله فعلاً، وهذه ضلالة مِنْ أشر أنواع الضلالات
وأخبثها».
وإِنْ
واجب المؤمنين الْمَسِيحِية الأول والأهم اليوم هُوَ تنقية أفكار الناس
عَنْ الله وترفيعها حَتَّى تصير مرة أخرى لائقة به- وبها، بَلْ ويَجِبُ أَنْ يحتل
جهادنا ذلك المقام الأول فِي صلواتها. ونَحْنُ نؤدي أكبر خدمة للجيل المؤمِنْ الْمَسِيحِي
اللاحق إِذَا قمنا بتسليمهم تِلْك الفكرة النبيلة عَنْ الله غَيْرُ معتمة أو منقوصة،
تِلْك الفكرة الصحيحة تسلمناها نَحْنُ مِنْ الآباء الآولين فِي العصور السالفة.
الأفكار الوثنية عَنْ الله
ومَا نقدمه هنا مِنْ أفكار موجزة عَنْ الله
فِي الديانات المختلفة، سوف يساعدنا عَلَى وضع فكرة التوراة والإِنْجِيل عَنْ الله
فِي إطارها الصحيح بِمَا حولها مِنْ أفكار:
أ – مذهب حيوية
المادة (أنيميزم =Animism) القائل «بأَنْ
كُلّ شَيْءٍ مادي فيه روح حية تحركه. وقد ظهرت هذه الأفكار فِي الديانات البدائية،
ولعلها أول الأفكار الَّتِي اعتنقها الإِنْسَانِ، بَلْ لعلها هِيَ بداية
كُلّ الديانات، فهي تقوم عَلَى الاعتقاد بوجود كائنات روحية كونية، فِي كُلّ
الكائنات المادية، تؤثر وتسيطر عَلَى كُلّ أحداث العالم المادي وحياة الإِنْسَانِ هنا
عَلَى الأرض وفي العالم الآخر بعد الموت. واعتقد البدائيون أَنْ هذه الكائنات
الروحية تتصل بالبشر، وأَنَّهَا تُسر أو تستاء مِنْ تصرفات البشر، والإِيمَانِ
بوجود هذه الكائنات يؤدي حتمَا – إِنْ عاجلاً أو آجلاً – إِلَى احترام هذه الكائنات وعبادتها ومحاولة إرضائها» (تيلور – الحضارت البدائية المجلد الأول ص426–427)، وبناء
عَلَى هَذَا الرأي، فإِنْ العالم مملوء بأرواح لاَ أجساد لها، شبيهة بنفس الإِنْسَانِ،
وأي روح مِنْ هذه الأرواح أو كُلّها، يمكن أَنْ تعتبر آلهة.
ب – الفتشية (Fetichism): وحسب هذه
الأفكار تعتبر كُلّ ثمار الأرض وكل الأشياء عامة، كائنات إلهية أو تحيا بأرواح
قوية ( فريزر فِي كتابه: الآلهة أدونيس، أتيس اوزوريس – ص 234). كَمَا تستخدم
هذه الكَلِمَةُ أحيانًا للتعبير عَنْ الاعتقاد بأَنْ الأرواح «تسكن فِي
بعض الكائنات بشكل متغير أو دائم…وهكذا
تصبح هذه الأشياء أو الكائنات آلهة تعبد باعتبارها مسكنا لهذه الأرواح» (تيل
فِي كتابه: مختصر تاريخ الديانات – ص 29).
ج – عبادة الأوثان: وهي تعني
أَنَّ موضوع العبادة قد تم اختياره، باعتباره مسكنًا دائمًا أو رمزاً
للألوهية، وبصفة عامة، يقوم الإِنْسَانِ
بصناعة هذه الرموز ببراعة وإتقان لتكون أقدر عَلَى تمثيل الإِلَهُ عَلَى نحو يفي
بالغرض. ولا يعني هَذَا أَنَّ الإِنْسَانِ يعبد مجرد «قطع مِنْ
الأخشاب أو الأحجار»، ولكنه يوجه عبادته إِلَى هذه
الأشياء، سواء كانت أشياء رمزية أو تماثيل للآلهة، عَلَى أَنَّهَا مساكن أو صور
لتلك الآلهة. ومِنْ الطبيعي أَنْ تظهر فكرة أَنَّ الأرواح الَّتِي تسكن هذه
الأشياء لَهَا شكل أو صُورَةِ الأشياء الَّتِي تسكنها. وقد عبر الرسول بـولس عَنْ الفكرة
الوثنية بدقة بقوله: «لا يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ
اللاهُوَتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرٍ نَقْشِ صِنَاعَةِ
وَاخْتِرَاعِ إِنْسَانِ»(أعمال17: 29).
د – تعدد الآلهة (polytheism): وهُوَ
الاعتقاد بآلهة كثيرين وعبادتهم جميعاً، وهُوَ اتجاه لاَ يختلف جوهريًا عَنْ مذهب
حيوية المادة والفتشية وعبادة الأوثان. ولرُبَّمَا نشأ تعـدد الآلهة مستقلاً عَنْ
كُلّ هذه الاتجاهات. وعبارة «تعدد
الآلهة» تستخدم – عَلَى الأغلب – للدلالة عَلَى عبادة
عدد معين مِنْ الآلهة المعروفين المحددين سواء كانت هذه الآلهة أرواحًا لاَ أجساد
لَهَا، أو أرواحًا تسكن فِي الأجرام والموجودات الطبيعية العظمى كالكواكب والجبال،
أو فِي تماثيل هِيَ «نقش
صناعة واختراع إِنْسَانِ» وفي بلاد اليونان القديمة أو
الهند الحديثة، هناك آلهة معروفة لَهَا أسماء يمكن حصرها، وَلَكِنْ مِنْ المفهُوَم
جيداً أًنَّهُ رغم أًنَّهُ يمكن التعبير عنها بالتماثيل والصور، إلا أَنَّهَا تعيش
منعزلة فِي عالم روحي فوق سائر العالم.
هـ – الاعتقاد بوجود
إله أعلى وآلهة أخرى دونه (Henotheism):
وهُوَ اتجاه عند بعض الأفراد أو
الجماعات، حيث يعتقدون بوجود آلهة كثيرين،
إلا أَنَّ أحد هؤلاء الآلهة هُوَ الإِلَهُ الأعلى الَّذِي يسمو فوق
الآخرين، وبالتالي توجه العبادة له وحده، وقد مهد هَذَا الطريق للتوحيد عند بعض
الشعوب عِنْدَمَا تطورت حضارتها ووصلت إِلَى مستوى معين مِنْ الثقافة. ويوجد تفاوت
فِي مدى ظهُوَر هَذَا الاتجاه. فسواء درسنا بابَلْ أو مصر أو الهند أو اليونان،
فإننا نجد أثار هَذَا الاتجاه واضحة ومميزة فِي الميل نحو تركيز الظهُوَرات المتنوعة
للقوى الإلهية فِي مصدر واحد (جاسترو – دراسة الأديان – 76)، وهَذَا المنهج الفكري يطلق عليه اسم «الهينوسيزم» أو «مونولاترى» (Monolatry) أَيُّ عبادة
إله واحد مَعَ الاعتقاد بوجود آلهة كثيرين، ويصاحب هَذَا الاتجاه فلسفة
ميتافيزيقية واتجاهات أخلاقية، ودوافع شخصية، إما بواسطة الاتجاه العقلي نحو
التوحيد أو نتيجة الارتباط الشخصي بمبدأ سياسي أو أخلاقي.
و – وحدة الوجود أو
ألوهية الكون (Pantheism):
وحيث يسود المبدأ السابق (الهينوسيزم)،
فإِنْ مذهب تعدد الآلهة يسفر عَنْ الاعتقاد بوحدة الوجود، وخير مثال لذلك هُوَ
الهند حيث يعتبر «براهما» ليس الإِلَهُ
الأعظم والأسمى مِنْ كُلّ الآلهة فحسب، بَلْ أيضا الكائن الفريد وكل الآلهة الأخرى
ليست إلا ظهُوَرات وأشكالا له، وَلَكِنْ مَا حدث فِي الهند هُوَ أَنَّ الآلهة الَّتِي
قهرها براهما، قد انتقمت منه، فأصبح براهما فكرة مجردة نائية حَتَّى أَنَّ العبادة
تقدم أساسا للآلهة الأخرى الَّتِي هِيَ ظهُوَرات مختلفة له – كَمَا سبق القول – وهكذا نجد أَنَّ
أفضل وصف للهندوسية الحديثة، هُوَ أَنَّهَا ليست عبادة إله واحد مَعَ الإِيمَانِ
بوجود آلهة أخرى، بَلْ بالحري الإِيمَانِ بإله واحد مَعَ عبادة آلهة كثيرة.
ز – الاعتقاد بوجود
إله (Deism): يمكن أَنَّ تتحول النزعة إِلَى
التوحيد إِلَى الاتجاه العكسي، إِلَى مجرد الاعتقاد بوجود إله، ومَعَ ذلك تؤدي إِلَى
ظروف دينية مشابهة، فالكائن الأسمى الَّذِي هُوَ الحقيقة المطلقة والقوة المهيمنة
عَلَى الكون، يصبح موضوع إيمان غامض وفكرة
مجردة بعيداً عَنْ العالم، ومتعاليًا إِلَى درجة استحالة الاقتراب منه، ويصبح مِنْ
اللازم أَنْ يملأ الفراغ الناشئ بينه وبين العالم، كائنات متعددة أدنى منه وخاضعة
له وأقرب إِلَى الإِنْسَانِ يسهَلْ عليه الاقتراب منها وعبادتها. وقد حدث هَذَا فِي
اليونان القديمة حيث كانت «الضرورة» هِيَ ذلك
الإِلَهُ، أما فِي الصين فقد كان الإِلَهُ «تيان أو
السماء» هُوَ الإِلَهُ
الأعظم، وَلَكِنْ كان هناك آلهة أدنى تقدم لَهَا العبادة، فالملائكة فِي الزرادشتية
وفي اليهُوَدية..وغيرهما، والقديسون فِي الطقوس الكاثوليكية، تعبير عَنْ هَذَا الاتجاه،
ووحدة الوجود والاعتقاد بوجود إله، رغم أًنَّهُ كان لهما رواج ملحوظ كنظريات
فلسفية، إلا أنهما لم يستطيعا البقاء بشكل راسخ كديانات لأنهما تحولا إِلَى نوع مِنْ
تعدد الآلهة وعبادة الأوثان، مِمَّا يدل عَلَى أنهما صورتان زائفتان للاتجاه إِلَى
التوحيد.
ح – التوحيد عند
الساميين: واتجاه التوحيد عند الساميين رُبَّمَا كانت
له أسباب فرعية كثيرة مثل العزلة القبلية، أو العظمة القومية، ويعتقد أَنَّ قبائل
سامية كثيرة كانت قبائل موحدِّة لأحد هذين السببين أو لكليهما، وَلَكِنْ سرعان مَا
قضى الاتصال بين الـقبائل فِي الحروب أو التجارة أو المصاهرة عَلَى ذلك مِمَّا أدي
إِلَى اندماج هذه الآلهة القبلية فِي الإِيمَانِ بإله إقليمي واحد مَعَ عبادة آلهة
آخرين.
ط – التوحيد الأخلاقي
والشخصي: يمكن إضافة عنصر واحد
آخر إِلَى الاتجاه التوحيدي، ليصبح توحيدًا ثابتًا مستقرًا، وهَذَا العنصر هُوَ إدراك
أَنَّ لله علاقات أدبية مَعَ الإِنْسَانِ، وعِنْدَمَا ينظر الإِنْسَانِ إِلَى
السلوك عَلَى أًنَّهُ سلوك أخلاقي، يدرك أًنَّهُ لاَ يمكن أَنْ يكون هناك سوى مثال
أو مرجع أخلاقي واحد، وعِنْدَمَا يدرك أَنْ الله هُوَ هَذَا المثال والمرجع، لابد أَنْ
يؤدي ذلك إِلَى مَعْرِفَةِ الله باعتباره الأسمى والفريد، ومَعَ هَذَا قد يظل
الاعتقاد فِي وجود كائنات أخرى تسمى آلهة، بعض الوقت، ولكنها سرعان مَا تفقد صفات
الألوهية حالَمَّا يرى الإِنْسَانِ أَنَّهَا أقل مِنْ الإِلَهُ الواحد، أو أَنَّهَا
تختلف بَلْ وتتعارض مَعَ هَذَا الإِلَهُ الَّذِي يهيمِنْ عَلَى ضمير الإِنْسَانِ،
فلا تبطل عبادتها فحسب، بَلْ يصل الأمر إِلَى اعتبار أَنْ تقديم العبادة لَهَا دنس
وشر، وهكذا يمنع الجانب الأخلاقي – فِي المفهُوَم التوحيدي لله – الجنوح إِلَى الاعتقاد بوحدة
الوجود أو تأليه الكون، مِمَّا ينحدر به إِلَى مذهب تعدد الآلهة، لأَنْ الفكرة
الأخلاقية عَنْ الله تتضمِنْ بالضرورة شخصيته وسموه الفائق المتميز عَنْ العالم
والمتعالي فوق العالم، وكذلك علاقته الوثيقة والدائمة بالإِنْسَانِ، وإِذَا كان
الله هُوَ المهيمِنْ عَلَى ضمير الإِنْسَانِ، فهُوَ لاَ يمكن أَنْ يختلط بالطبيعة
الميتة أو الكائنات الخيالية النابعة مِنْ فكر الإِنْسَانِ، كَمَا لاَ يمكن إبعاده
إِلَى مَا وراء السماوات وجمهُوَر الملائكة، وهكذا يظهر للمرة الأولى مفهُوَم أدبي
سام عَنْ الله، فِي العهد القديم، فهَذَا هُوَ الفكر السائد فِي كُلّ أسفاره.
مَا هية الله؟
للمزيد
للرد
على العلاقة بين الإيمان والعقل شاهد
الإِنْسَانَ بين الإيمان والعقل للقس سامي اسكندر
ت: 01112385575 - 01012003985
Email: Pastor_samy@yahoo.com
http://youtu.be/PTNDonmrZbs
0 التعليقات:
إرسال تعليق