مُوسَى والأربعون السنة الأولى من عمره
إعداد
د. القس سامي منير اسكندر
«24بِالإِيمَانِ مُوسَى
لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، 25مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ
اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ، 26حَاسِباً عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ
خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ»(الرِّسَالَةُ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ11: 24-26).
v
مقدمة
قد
لا يجد المرء في صفحات التاريخ الكثير من الناس، الذين تعرضوا وهم على مفارق
الطرق، لما تعرض له هذا الرجل القديم مُوسَى،
إذ كان واحداً من الأوائل الذين جاء امتحانهم على ضفاف النيل، ليكتشفوا الفارق
المهول بين الطريق الواسع العالمي، وطريق الحياة الأبدية الضيق،.. وقف مُوسَى
أمام الطريقين، ورأى الطريق الرحب الواسع، مرصوفاً بالذهب تعبق على جانبيه الزهور،
ويرويه النيل بالخضرة والجمال، والحسن والمتعة، والمجد العالمي المذهل!!.. ورأى
الطريق الآخر الكرب الضيق، وعلى رأسه الصليب الضيق، والنفي والتشريد، ولم يتردد مع
ذلك قط، في أن يختار هذا الطريق الأخير إذ: «24بِالإِيمَانِ
مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ
يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، 25مُفَضِّلاً
بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ
وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ، 26حَاسِباً
عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ
إِلَى الْمُجَازَاةِ»(الرِّسَالَةُ إِلَى
الْعِبْرَانِيِّينَ11: 24-26)..
لقد أدرك مُوسَى
أن مأساة الإنسان الغارقة في كل العصور والأجيال أنه ينظر إلى أول الطريق، وليس
إلى نهايته، مع أن الوضع المعكوس هو الصحيح إذ: «12تُوجَدُ
طَرِيقٌ تَظْهَرُ لِلإِنْسَانِ مُسْتَقِيمَةً وَعَاقِبَتُهَا طُرُقُ الْمَوْتِ»(سِفْرُ الأَمْثَالُ14: 12، سِفْرُ
الأَمْثَالُ16: 25)
وهو
لا يرضى أن تكون له هذه المأساة، فيتحول آخر الأمر مهما حف به من مجد عالمي إلى
جثة محنطة في مقابر الفراعنة القديمة بل أنه لينشد أن يموت بأمر من الله على رأس
الفسجة، ولا يدفن في أعظم هرم في مصر الوثنية القديمة!!.. أجل وشتان إلى الأبد،
بين مُوسَى
كمومياء، ومُوسَى
على جبل التجلي مع إيليا والرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، كما رآه بطرس ويعقوب
ويوحنا!!.. دعونا إذاً نرى هذا الرجل كواحد من أعظم رجال العصور كلها، يقف ربما في
الخط الثاني مع بولس والقليلين جداً من أبطال الإيمان خلف ابن الله في السماء.. من
يكون؟ وما قصته العظيمة وتاريخه الباقي إلى أن تنتهي الأرض وما عليها، ويسمع الناس
الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة مُوسَى
والحمل؟!..
v
من
هو مُوسَى؟!!
عندما يمر الإنسان منا نحن المصريين بمومياء
رمسيس الثاني، كثيراً ما يأتي السؤال: هل هذا الملك هو الرجل الذي عاصر مُوسَى
كما يذهب بعض المؤرخين أو الشراح ممن يعتقدون أن مُوسَى
ولد عام 1578ق.م. وأنه هرب إلى مديان عام 1538ق.م. ورجع إلى مصر عام 1498ق.م.، وأن
رمسيس الثاني جاء إلى العرش عام 1567ق.م.، وأن منفتاح حكم مصر عام 1506ق.م.؟.. أم
أن مُوسَى
جاء بعد هذا التاريخ بفترة قصيرة؟.. لسنا نعلم على وجه التأكيد، ولا نظن أن دراسة
الشخصيات التي نعالجها تهتم بالجانب التاريخي المحض، فهذا متروك للدراسات
التاريخية، وعلم الآثار،.. ولا نظن أن دراساتنا أيضاً تتجه إلى معارض الفن، حيث
نرى رجال الفن من مصورين أو مثالين، وهم يتخيلون شكل مُوسَى
أو منظره أو صورته، ولن نقف من مُوسَى،
مثلما وقف المثال العظيم مايكل أنجلو، بعد أن أبدع تمثاله العظيم الرائع، وإذ أخذ
بالمنظر ضرب بعصاه وهو يصيح: "تكلم يا مُوسَى"..
لكننا سنحاول دراسة أخلاقيات مُوسَى
ورسالته العظيمة التي تركت طابعها الأدبي والروحي على مر العصور والأجيال!!..
v
الاسم:
«مُوسَى» في العبرية يغلب أنه مشتق من
كلمة تعني «ينتشل» لأن ابنة فرعون «انتشلته من الماء»: «10وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ابْنَةِ
فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْناً وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوسَى»
وَقَالَتْ: «إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 10)، «7فِي ضِيقِي دَعَوْتُ الرَّبَّ وَإِلَى إِلَهِي صَرَخْتُ،
فَسَمِعَ مِنْ هَيْكَلِهِ صَوْتِي وَصُرَاخِي دَخَلَ أُذُنَيْهِ»(سِفْرُ صَمُوئِيلَ الثَّانِي22: 7)، «16أَرْسَلَ مِنَ الْعُلَى فَأَخَذَنِي. نَشَلَنِي مِنْ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور18: 16).
أما في اللغة المصرية القديمة فمعناه «ابن»، وقد جاء في الكثير من
أسماء الفراعنة، مثل «أحمس» أي ابن الإله «أح» إله القمر، و«تحوتمس» أي ابن الإله «تحوت» (أو توت)، ورعمسيس (أو رمسيس) أي ابن الإله «رع» وهكذا.
ويذكر اسم موسي أكثر من 750 مرة في نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ،
79 مرة في الإِنْجِيل، وجميعها تشير إلى «مُوسَى» القائد والمشرع والنبي العظيم،
فلا يطلق هذا الاسم على شخص آخر في الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ.
v
الخلفية:
ينتقل بنا سِفْرُ اَلْخُرُوجُ من موت يوسف وتحنيطه ووضعه في تابوت
مصر، في نهاية سفر التكوين، وكان يوسف هو الذي أتى ببني إسرائيل إلى مصر، ينتقل
بنا سِفْرُ اَلْخُرُوجُ من هذا الموقف، إلى زمن ولادة مُوسَى الذي أخرج بني إسرائيل من
العبودية في مصر. وفي ما بين التاريخين «7وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَأَثْمَرُوا وَتَوَالَدُوا
وَنَمُوا وَكَثُرُوا كَثِيراً جِدّاً وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ مِنْهُمْ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ1: 7).
«8ثُمَّ قَامَ مَلِكٌ جَدِيدٌ عَلَى مِصْرَ لَمْ يَكُنْ
يَعْرِفُ يُوسُفَ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ1: 8)، فثارت المخاوف في نفسه من تكاثر
بني إسرائيل خشية أن ينضموا إلى الأعداء إذا قامت حرب في أي وقت، فاتخذ إجراءات
قاسية للقضاء عليهم. «9فَقَالَ لِشَعْبِهِ: «هُوَذَا بَنُو إِسْرَائِيلَ شَعْبٌ أَكْثَرُ
وَأَعْظَمُ مِنَّا. 10هَلُمَّ
نَحْتَالُ لَهُمْ لِئَلاَّ يَنْمُوا فَيَكُونَ إِذَا حَدَثَتْ حَرْبٌ أَنَّهُمْ
يَنْضَمُّونَ إِلَى أَعْدَائِنَا وَيُحَارِبُونَنَا وَيَصْعَدُونَ مِنَ الأَرْضِ».
11فَجَعَلُوا عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ
تَسْخِيرٍ لِكَيْ يُذِلُّوهُمْ بِأَثْقَالِهِمْ فَبَنُوا لِفِرْعَوْنَ مَدِينَتَيْ
مَخَازِنَ: فِيثُومَ وَرَعَمْسِيسَ. 12وَلَكِنْ
بِحَسْبِمَا أَذَلُّوهُمْ هَكَذَا نَمُوا وَامْتَدُّوا. فَاخْتَشُوا مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ. 13فَاسْتَعْبَدَ
الْمِصْرِيُّونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعُنْفٍ 14وَمَرَّرُوا
حَيَاتَهُمْ بِعُبُودِيَّةٍ قَاسِيَةٍ فِي الطِّينِ وَاللِّبْنِ وَفِي كُلِّ
عَمَلٍ فِي الْحَقْلِ. كُلِّ عَمَلِهِمِ الَّذِي عَمِلُوهُ بِوَاسِطَتِهِمْ
عُنْفاً. 15وَكَلَّمَ مَلِكُ مِصْرَ
قَابِلَتَيِ الْعِبْرَانِيَّاتِ اللَّتَيْنِ اسْمُ إِحْدَاهُمَا شِفْرَةُ وَاسْمُ
الأُخْرَى فُوعَةُ 16وَقَالَ:
«حِينَمَا تُوَلِّدَانِ الْعِبْرَانِيَّاتِ وَتَنْظُرَانِهِنَّ عَلَى
الْكَرَاسِيِّ إِنْ كَانَ ابْناً فَاقْتُلاَهُ وَإِنْ كَانَ بِنْتاً فَتَحْيَا». 17وَلَكِنَّ الْقَابِلَتَيْنِ خَافَتَا اللهَ
وَلَمْ تَفْعَلاَ كَمَا كَلَّمَهُمَا مَلِكُ مِصْرَ بَلِ اسْتَحْيَتَا
الأَوْلاَدَ. 18فَدَعَا مَلِكُ مِصْرَ
الْقَابِلَتَيْنِ وَقَالَ لَهُمَا: «لِمَاذَا فَعَلْتُمَا هَذَا الأَمْرَ
وَاسْتَحْيَيْتُمَا الأَوْلاَدَ؟» 19فَقَالَتِ
الْقَابِلَتَانِ لِفِرْعَوْنَ: «إِنَّ النِّسَاءَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لَسْنَ
كَالْمِصْرِيَّاتِ فَإِنَّهُنَّ قَوِيَّاتٌ يَلِدْنَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُنَّ
الْقَابِلَةُ». 20فَأَحْسَنَ اللهُ
إِلَى الْقَابِلَتَيْنِ وَنَمَا الشَّعْبُ وَكَثُرَ جِدّاً. 21وَكَانَ إِذْ خَافَتِ الْقَابِلَتَانِ اللهَ
أَنَّهُ صَنَعَ لَهُمَا بُيُوتاً. 22ثُمَّ
أَمَرَ فِرْعَوْنُ جَمِيعَ شَعْبِهِ قَائِلاً: «كُلُّ ابْنٍ يُولَدُ تَطْرَحُونَهُ
فِي النَّهْرِ لَكِنَّ كُلَّ بِنْتٍ تَسْتَحْيُونَهَا»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ1: 8-22).
وفي هذه الظروف وُلد مُوسَى. ويذكر سِفْرُ اَلْخُرُوجُ اسم
المدينتين اللتين بناهما بنو إسرائيل لفرعون واسم القابلتين، ولكنه لا يذكر اسم
فرعون ولا اسم ابنة فرعون التي تبنّت مُوسَى.
أ) مولده:
مما يستلفت النظر أن تروى قصة ميلاده دون أن يذكر اسما أبويه اكتفاء
بالقول: «1وَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لاَوِي وَأَخَذَ بِنْتَ لاَوِي»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 1)، فلا يذكر اسماهما إلا في
الأصحاح السادس، وهما عمرام بن قهات، ويوكابد عمته «20وَأَخَذَ عَمْرَامُ
يُوكَابَدَ عَمَّتَهُ زَوْجَةً لَهُ. فَوَلَدَتْ لَهُ هَارُونَ
وَمُوسَى. وَكَانَتْ سِنُو حَيَاةِ عَمْرَامَ مِئَةً وَسَبْعاً وَثَلاَثِينَ
سَنَةً»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ6: 20). ثم تأتي عبارة «2فَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ وَوَلَدَتِ ابْناً. وَلَمَّا رَأَتْهُ أَنَّهُ حَسَنٌ خَبَّأَتْهُ
ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 2)، مما قد يفهم منه أن هذا الابن
كان ابنها الأول، ولكننا نعرف أنه كان له أخت أكبر منه، كانت تحرس السفط الذي فيه
وضعته أمه بين الحلفاء «4وَوَقَفَتْ أُخْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ لِتَعْرِفَ مَاذَا
يُفْعَلُ بِهِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 4)، وكان لدى هذه الأخت من الحكمة
ما جعلها تنتهز الفرصة لتجعل من أم مُوسَى مرضعة له، كما نعرف أيضاً أن أخاه
هارون كان يكبره بثلاث سنوات «7وَكَانَ مُوسَى ابْنَ ثَمَانِينَ سَنَةً وَهَارُونُ
ابْنَ ثَلاَثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً حِينَ كَلَّمَا فِرْعَوْنَ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ7: 7)، مما يدل على أن أمر فرعون
بقتل أولاد العبرانيين صدر بعد ولادة هارون وقبل ولادة مُوسَى.
لم يكن جمال مُوسَى
الجمال العادي، ولكنه كان نوعاً من ذلك الجمال الذي وصفه استفانوس بالقول: «20وَفِي
ذَلِكَ الْوَقْتِ وُلِدَ مُوسَى وَكَانَ جَمِيلاً
جِدّاً فَرُبِّيَ هَذَا ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ فِي بَيْتِ أَبِيهِ»(سِفْرُ أَعْمَالُ الرُّسُلِ7: 20)،
والذي قال عنه يوسيفوس المؤرخ اليهودي: "إن جماله كان رائعاً فتاناً مذهلاً،
فما من إنسان بهذا الجمال البارع".. وقد هز هذا الجمال أمه وأباه اللذين
أخفياه ثلاثة أشهر وهز ابنة فرعون التي رق قلبها للجمال الباكي في سفط وكان مؤشراً
عظيماً في الحب الذي أحبت به مُوسَى،
فلم تره بعد عبداً لها، بل جعلته ابناً!!.. وقد أضحى هذا الجمال مذهلاً ورهيباً،
بعد أن صعد إلى الجبل وعاش مع الله أربعين يوماً،.. ولم تعد العين البشرية قادرة
أن تحدق فيه، كما يصعب عليها أن تواجه النور الباهر، ومن ثم ألف مُوسَى
أن يغطي وجهه في نظر إلى الناس، حتى يرفع البرقع في خلوته مع الله!!..
وما أعجب تدبيرات الله: «9فَقَالَتْ لَهَا(لأم مُوسَى) ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي بِهَذَا الْوَلَدِ
وَأَرْضِعِيهِ لِي وَأَنَا أُعْطِي أُجْرَتَكِ». فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ
وَأَرْضَعَتْهُ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 9). كما أن ابنة فرعون تصبح راعية
للطفل العبراني الذي سيخلص بني إسرائيل من العبودية في مصر، بل وتصبح أماً له.
ب) طفولية مُوسَى:
«10وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ
لَهَا ابْناً وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوسَى»
وَقَالَتْ: «إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 10). ولعل الأم حفظت الولد سنتين
أو ثلاث سنوات «19وَبَكَّرُوا فِي الصَّبَاحِ وَسَجَدُوا أَمَامَ الرَّبِّ, وَرَجَعُوا
وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِهِمْ فِي الرَّامَةِ. وَعَرَفَ أَلْقَانَةُ امْرَأَتَهُ
حَنَّةَ, وَالرَّبُّ ذَكَرَهَا. 20وَكَانَ
فِي مَدَارِ السَّنَةِ أَنَّ حَنَّةَ حَبِلَتْ وَوَلَدَتِ ابْناً وَدَعَتِ اسْمَهُ
صَمُوئِيلَ قَائِلَةً: «لأَنِّي مِنَ الرَّبِّ سَأَلْتُهُ». 21وَصَعِدَ أَلْقَانَةُ وَجَمِيعُ بَيْتِهِ
لِيَذْبَحَ لِلرَّبِّ الذَّبِيحَةَ السَّنَوِيَّةَ, وَنَذْرَهُ. 22وَلَكِنَّ حَنَّةَ لَمْ تَصْعَدْ لأَنَّهَا
قَالَتْ لِرَجُلِهَا: «مَتَى فُطِمَ الصَّبِيُّ آتِي بِهِ لِيَتَرَاءَى أَمَامَ
الرَّبِّ وَيُقِيمَ هُنَاكَ إِلَى الأَبَدِ». 23فَقَالَ
لَهَا أَلْقَانَةُ رَجُلُهَا: «اعْمَلِي مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكِ. امْكُثِي
حَتَّى تَفْطِمِيهِ. إِنَّمَا الرَّبُّ يُقِيمُ كَلاَمَهُ». فَمَكَثَتِ
الْمَرْأَةُ وَأَرْضَعَتِ ابْنَهَا حَتَّى فَطَمَتْهُ. 24ثُمَّ حِينَ فَطَمَتْهُ أَصْعَدَتْهُ مَعَهَا
بِثَلاَثَةِ ثِيرَانٍ وَإِيفَةِ دَقِيقٍ وَزِقِّ خَمْرٍ, وَأَتَتْ بِهِ إِلَى
الرَّبِّ فِي شِيلُوهَ وَالصَّبِيُّ صَغِيرٌ »(سِفْرُ صَمُوئِيلَ الأَوَّلُ1: 19-24)، أو ربما إلى ما بعد ذلك،
وفي تلك الأثناء كانت تحضره – بين وقت وآخر- إلى ابنة فرعون باعتباره ابنها. ولكن
أمه كانت تغرس فيه المحبة والولاء لإلهه ولشعبه. ولكننا في الحقيقة لا نعلم شيئاً
عن تفاصيل هذه السنوات الهامة في تشكيل شخصيته.
ويقول الإِنْجِيل: «23بِالإِيمَانِ مُوسَى، بَعْدَمَا وُلِدَ، أَخْفَاهُ
أَبَوَاهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، لأَنَّهُمَا رَأَيَا الصَّبِيَّ جَمِيلاً، وَلَمْ
يَخْشَيَا أَمْرَ الْمَلِكِ»(الرِّسَالَةُ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ11: 23)، أي أنهما جازفا بنفسيهما.
وصف استفانوس مُوسَى:
«22فَتَهَذَّبَ
مُوسَى بِكُلِّ حِكْمَةِ الْمِصْرِيِّينَ وَكَانَ مُقْتَدِراً فِي
الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ»(سِفْرُ أَعْمَالُ الرُّسُلِ7:
22). ومن المعتقد أن مصر رائدة العلم في كل
أجيال التاريخ، وقد قال هنري ورد بيتشر، وهو يعطي الفرق بين عظمة مصر وغيرها من
الأمم والممالك: "إن روما لم تكن قد عرفت بعد، واليونان كانت مغارة لصوص، ولم
يكن في بقاع العالم كله سوى مكان واحد يتألق فيه المجد، وقد كان هذا المكان هو مصر
بلد الفلسفة والفن والوثنية".. وفي عصر مُوسَى
كانت هناك جامعة في عاصمة البلاد في المكان الذي يطلق عليه الآن "صان
الحجر" ومن المرجح أن مُوسَى
تعلم في هذه الجامعة حتى بلغ أعلى درجات المعرفة والعلم،.. كانت الجامعة تعلم
التاريخ والطب واللاهوت والحساب والجبر والهندسة والعلوم الحربية، ولا شبهة في أن مُوسَى
أخذ بالكثير من هذه العلوم، التي اختلط فيها الحق بالباطل، والنور بالظلام ولكنها
على أي حال جعلت منه واحداً من أعظم علماء عصره، ومن أعظم علماء العصور كلها،
وأنها شكلت فيه ذلك الذهن المنظم العبقري، الذي صفاه الله، في برية مديان ليكون
واحداً من أبرع العقول التي أعطاها الله للإنسان على هذه الأرض!!.. وأليس مما يدعو
إلى العجب أن الرجل الذي تهذب بكل حكمة المصريين، وكان العملاق العظيم في نَامُوسِ
مُوسَى
وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ، يذكرنا بنده الآخر في الإِنْجِيل، والذي أفرزه
الله من بطن أمه، وكان عليه أن يجتاز الطريق، من جامعة طرسوس، إلى رجلي غمالائيل،
إلى الخدمة الخالدة التي قام بها بعد ذلك؟!!..
جـ) حياته فى مصر:
«11وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمَّا كَبِرَ مُوسَى أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى
إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ فَرَأَى رَجُلاً مِصْرِيّاً يَضْرِبُ
رَجُلاً عِبْرَانِيّاً مِنْ إِخْوَتِهِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 11). لقد انقضت نحو أربعين سنة
بين «10وَلَمَّا كَبِرَ
الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْناً
وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوسَى» وَقَالَتْ: «إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 10)، «لَمَّا كَبِرَ مُوسَى»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 11). ويقول استفانوس عن هذه
الفترة إن مُوسَى «22فَتَهَذَّبَ
مُوسَى بِكُلِّ حِكْمَةِ الْمِصْرِيِّينَ وَكَانَ مُقْتَدِراً فِي
الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ»(سِفْرُ أَعْمَالُ الرُّسُلِ7:
22)، مما يتضمن أن مُوسَى تلقى من التعليم ما كان يليق
بأمير مصري أن يتلقاه.
ولكن الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ لا يفرد لهذه المرحلة
الهامة من حياة مُوسَى سوى 15 آية «1وَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لاَوِي وَأَخَذَ بِنْتَ
لاَوِي 2فَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ
وَوَلَدَتِ ابْناً. وَلَمَّا رَأَتْهُ أَنَّهُ حَسَنٌ خَبَّأَتْهُ ثَلاَثَةَ
أَشْهُرٍ. 3وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهَا
أَنْ تُخَبِّئَهُ بَعْدُ أَخَذَتْ لَهُ سَفَطاً مِنَ الْبَرْدِيِّ وَطَلَتْهُ بِالْحُمَرِ
وَالزِّفْتِ وَوَضَعَتِ الْوَلَدَ فِيهِ وَوَضَعَتْهُ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ عَلَى
حَافَةِ النَّهْرِ. 4وَوَقَفَتْ
أُخْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ لِتَعْرِفَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِ. 5فَنَزَلَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى النَّهْرِ
لِتَغْتَسِلَ وَكَانَتْ جَوَارِيهَا مَاشِيَاتٍ عَلَى جَانِبِ النَّهْرِ. فَرَأَتِ
السَّفَطَ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ فَأَرْسَلَتْ أَمَتَهَا وَأَخَذَتْهُ. 6وَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتِ الْوَلَدَ وَإِذَا
هُوَ صَبِيٌّ يَبْكِي. فَرَقَّتْ لَهُ وَقَالَتْ: «هَذَا مِنْ أَوْلاَدِ
الْعِبْرَانِيِّينَ». 7فَقَالَتْ
أُخْتُهُ لاِبْنَةِ فِرْعَوْنَ: «هَلْ أَذْهَبُ وَأَدْعُو لَكِ امْرَأَةً
مُرْضِعَةً مِنَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لِتُرْضِعَ لَكِ الْوَلَدَ؟» 8فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي».
فَذَهَبَتِ الْفَتَاةُ وَدَعَتْ أُمَّ الْوَلَدِ. 9فَقَالَتْ
لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي بِهَذَا الْوَلَدِ وَأَرْضِعِيهِ لِي وَأَنَا
أُعْطِي أُجْرَتَكِ». فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ وَأَرْضَعَتْهُ. 10وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى
ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْناً وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوسَى» وَقَالَتْ:
«إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 1-10)، كما أنه لا يفرد سوى خمس
آيات «11وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمَّا كَبِرَ مُوسَى
أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ فَرَأَى رَجُلاً
مِصْرِيّاً يَضْرِبُ رَجُلاً عِبْرَانِيّاً مِنْ إِخْوَتِهِ 12فَالْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ
لَيْسَ أَحَدٌ فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ. 13ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَإِذَا
رَجُلاَنِ عِبْرَانِيَّانِ يَتَخَاصَمَانِ فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: «لِمَاذَا
تَضْرِبُ صَاحِبَكَ؟» 14فَقَالَ: «مَنْ
جَعَلَكَ رَئِيساً وَقَاضِياً عَلَيْنَا؟ أَمُفْتَكِرٌ أَنْتَ بِقَتْلِي كَمَا
قَتَلْتَ الْمِصْرِيَّ؟» فَخَافَ مُوسَى وَقَالَ: «حَقّاً قَدْ عُرِفَ الأَمْرُ!» 15فَسَمِعَ فِرْعَوْنُ هَذَا الأَمْرَ فَطَلَبَ
أَنْ يَقْتُلَ مُوسَى. فَهَرَبَ مُوسَى مِنْ وَجْهِ فِرْعَوْنَ وَسَكَنَ فِي
أَرْضِ مِدْيَانَ وَجَلَسَ عِنْدَ الْبِئْرِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 11-15)، لوصف ما انتهت إليه هذه
المرحلة من حياة مُوسَى، ومع ذلك فإنها تلقي ضوءاً كافياً
على نمو شخصيته،
فالعبارة: «11وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمَّا
كَبِرَ مُوسَى أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ فَرَأَى
رَجُلاً مِصْرِيّاً يَضْرِبُ رَجُلاً عِبْرَانِيّاً مِنْ إِخْوَتِهِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 11)، مقدمة لحادثين انتهت بهما
الأربعون السنة الأولى من حياة مُوسَى «23وَلَمَّا كَمِلَتْ لَهُ مُدَّةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً
خَطَرَ عَلَى بَالِهِ أَنْ يَفْتَقِدَ إِخْوَتَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ»(سِفْرُ أَعْمَالُ الرُّسُلِ7: 23)،
فقد خرج مُوسَى «11وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمَّا كَبِرَ مُوسَى
أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ فَرَأَى رَجُلاً
مِصْرِيّاً يَضْرِبُ رَجُلاً عِبْرَانِيّاً مِنْ إِخْوَتِهِ 12فَالْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ
لَيْسَ أَحَدٌ فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 11و12).
وكان هذا أول شئ قام به مُوسَى تعبيراً عن ارتباطه «بأخوته»
بشعبه«23بِالإِيمَانِ مُوسَى،
بَعْدَمَا وُلِدَ، أَخْفَاهُ أَبَوَاهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، لأَنَّهُمَا رَأَيَا
الصَّبِيَّ جَمِيلاً، وَلَمْ يَخْشَيَا أَمْرَ الْمَلِكِ. 24بِالإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا
كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ،»(الرِّسَالَةُ إِلَى
الْعِبْرَانِيِّينَ11: 23و24). ولعل ذلك لم يكن عملاً مفاجئاً من مُوسَى، فكثيراً ما شاهد العبرانيين
يئنون تحت وطأة أثقالهم «14وَمَرَّرُوا حَيَاتَهُمْ بِعُبُودِيَّةٍ قَاسِيَةٍ فِي
الطِّينِ وَاللِّبْنِ وَفِي كُلِّ عَمَلٍ فِي الْحَقْلِ. كُلِّ عَمَلِهِمِ الَّذِي
عَمِلُوهُ بِوَاسِطَتِهِمْ عُنْفاً»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ1: 14).
وفي هذا دليل على أن مُوسَى كانت عواطفه شديدة من نحو شعبه،
وكان قد أصبح، وقتئذ رجلاً في الأربعين من عمره، فلم يحتمل أن يرى أحد أخوته يتعرض
لمثل هذه المهانة. والكلمتان «يضرب»(عد 11) «وقتل»(عد 12)، هما نفس الكلمة في
العبرية، ولكن ضربة مُوسَى للمصري كانت قاضية، فدفن القتيل
في الرمل، ولم يكن هذا عملاً طائشاً عن غير وعي، لأنه قبل أن يقتل المصري «12فَالْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ
أَحَدٌ فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 12)، فقد أخذ دور المنقذ، علاوة
على أنه حاول أن يخفي الأمر، فطمر القتيل في الرمل.
د) الهروب:
«ثم خرج في اليوم الثاني، وإذا رجلان عبرانيان يتخاصمان»، فأراد أن
يصلح بينهما، فإذا بالمذنب يقول له: «14فَقَالَ: «مَنْ جَعَلَكَ رَئِيساً وَقَاضِياً عَلَيْنَا؟
أَمُفْتَكِرٌ أَنْتَ بِقَتْلِي كَمَا قَتَلْتَ الْمِصْرِيَّ؟» فَخَافَ مُوسَى
وَقَالَ: «حَقّاً قَدْ عُرِفَ الأَمْرُ!»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 14). وتبدو المأساة واضحة في
كلمات استفانوس: «25فَظَنَّ أَنَّ إِخْوَتَهُ يَفْهَمُونَ أَنَّ اللهَ عَلَى يَدِهِ
يُعْطِيهِمْ نَجَاةً وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا»(سِفْرُ أَعْمَالُ الرُّسُلِ7: 25). وهكذا اضطر مُوسَى أن يهرب لحياته، إذ عندما «15فَسَمِعَ فِرْعَوْنُ هَذَا الأَمْرَ فَطَلَبَ أَنْ
يَقْتُلَ مُوسَى. فَهَرَبَ مُوسَى مِنْ وَجْهِ فِرْعَوْنَ وَسَكَنَ فِي أَرْضِ
مِدْيَانَ وَجَلَسَ عِنْدَ الْبِئْرِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ2: 15).