دعوة الله للإرسالية
إعداد
د. القس سامي منير
اسكندر
1) مُوسَى خر 3
v
العُلِّيقة المُتَّقدة نارًا:
بينما كان مُوسَى يرعى غنم حميه يثرون
ساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب، إذا به يرى عُلِّيقة تتقد
نارًا ولا تحترق فقال: «3فَقَالَ مُوسَى: «أَمِيلُ
الآنَ لأَنْظُرَ هَذَا الْمَنْظَرَ الْعَظِيمَ. لِمَاذَا لاَ تَحْتَرِقُ الْعُلَّيْقَةُ؟»(سِفْرُ
اَلْخُرُوجُ3: 3). هنا دخل النبي مُوسَى إلى مرحلة جديدة هي مرحلة اللقاء
مع الله الذي هو سرّ القوة، والراعي الخفي الذي يعمل لخلاص الخليقة وبنيان الْكَنِيسَةِ.
ü
إلى أي شيء تشير هذه
العُلِّيقة المُتَّقدة؟
1) إن كلمة «العُلِّيقة» بالعبرية كما جاءت في العددين «2وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ
وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ فَنَظَرَ وَإِذَا الْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ
وَالْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ! 3فَقَالَ مُوسَى: «أَمِيلُ الآنَ لأَنْظُرَ هَذَا
الْمَنْظَرَ الْعَظِيمَ. لِمَاذَا لاَ تَحْتَرِقُ الْعُلَّيْقَةُ؟»(سِفْرُ
اَلْخُرُوجُ3: 2و3). تعني «العُلِّيقة المملوءة شوكًا The thorny bush»،
لذا رأى
اليهود في هذه العُلِّيقة رمزًا لإسرائيل وقد أحاطت به الأشواك
والأتعاب التي تلحق به. وقد أخذ بعض الآباء الأولين ذات الفكر، فرأى العلامة
ترتليان في العُلِّيقة إشارة إلى الْكَنِيسَةِ
التي تشتعل فيها نار الاضطهاد ولا تُبيدها.
ربما الله يتحدث مع أولاده في الْكَنِيسَةِ كما
في العُلِّيقة. وكأن مُوسَى النبي رأى في العُلِّيقة كنيسة الرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ المتألمة تحوط بها الأشواك، لكنها ملتهبة بنار الرُّوحِ الْقُدُسِ فلا
يصيبها الموت...هذه هي الخدمة التي دُعي إليها!
2) أنها تشير إلى مجد الله الذي حلَّ في شعبه الذي هو الْكَنِيسَةِ
لكنه لم يبيد قساوة قلبهم المملوءة أشواكًا.
3) في
العُلِّيقة إعلانًا عن الميلاد بالتجسَّد، فقد وُلد الرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ من مريم العذراء، وبميلاده حل اَلرُّوحُ الْقُدُسُ على مريم العذراء «35فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَهُ: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ
عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ
الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ»(إِنْجِيلُ لُوقَا1: 35). لذلك نور اللاهوت الذي أشرق في تجسده نحو الحياة البشرية
لم يحرق العُلِّيقة (الجسد الإنساني) المُتَّقدة.
أن العُلِّيقة حملت سرّ «التجسَّد
الإلهي»، فقد اتحد اللاهوت بالناسوت دون أن يُبتلع الناسوت. فإنه ما كان يمكن لمُوسَى
النبي أن يبدأ هذا العمل الخلاصي ما لم يتلمس ظلال التجسد الإلهي، فيتعرف على «الكلمة
الإلهي» المتجسد كصديق للبشرية، صار واحدًا منا، عاش بيننا يحمل جسدنا وإنسانيتنا
حتى يدخل بنا إلى أمجاده الإلهية. لم يشرق النور خلال كوكب مضيء بل خلال عُلِّيقة
أرضية، لكنه كان يفوق في بهائه الأنوار السماوية، وفي نفس الوقت لكي لا يظن أحد
أنه ليس صادرًا عن مادة ملموسة، أي لئلاَّ ينكر حقيقة تجسَّده.
«3فَقَالَ مُوسَى: «أَمِيلُ
الآنَ لأَنْظُرَ هَذَا الْمَنْظَرَ الْعَظِيمَ. لِمَاذَا لاَ
تَحْتَرِقُ الْعُلَّيْقَةُ؟»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ3: 3). يليق
بك ألاَّ تحزن لأنك حُرمت من الأعين الجسدية التي يشترك فيها النمل والحشرات
الطائرة والزواحف مع الإنسان، بل بالأحرى تفرح أن لك العين المذكورة في سفر نشيد
الأناشيد...هذه التي بها تنظر الله، والتي أشار إليها مُوسَى.
ويلاحظ أن نَامُوسِ
مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ يقول: «2وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ فَنَظَرَ وَإِذَا الْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ
وَالْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ!» (سِفْرُ
اَلْخُرُوجُ3: 2). وهنا كلمة مَلاَكُ تعني «مرسل»، وتشير إلى الأقنوم
الثاني، الابن الذي أُرسل من قبل الآب ليعلن هذا العمل ويرسل النبي مُوسَى...فلو
أن الذي ظهر مَلاَكُ وليس الأقنوم الثاني لما قال: «4فَلَمَّا رَأَى الرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ نَادَاهُ اللهُ مِنْ وَسَطِ الْعُلَّيْقَةِ
وَقَالَ: «مُوسَى مُوسَى». فَقَالَ:
«هَئَنَذَا». 5فَقَالَ: «لاَ
تَقْتَرِبْ إِلَى هَهُنَا. اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ لأَنَّ الْمَوْضِعَ
الَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ». 6ثُمَّ قَالَ: «أَنَا
إِلَهُ أَبِيكَ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ».
فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأَنَّهُ خَافَ أَنْ
يَنْظُرَ إِلَى اللهِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ3: 4-6).
أن الآب لا يُرى، لكن كلمته تُعلن هنا
في العُلِّيقة كنار ملتهبة، وهو بعينه الذي يأتي في آخر الأزمنة متجسدًا «لكي يخبر»
عن الآب! من خلال العُلِّيقة الملتهبة نارًا دُعيَ مُوسَى وهو واقف حافي القدمين
ليتسلم خدمة شعب الله، وهنا نلاحظ:
1) تطلع مُوسَى النبي إلى العُلِّيقة
وإذا كلها أشواك، لكن النار الإلهية ملتهبة خلالها دون أن تحترق...لعله رأى في ذلك
عمل الله الناري الذي يستخدمنا بكل ما فينا من أشواك، يلهب قلوبنا ويعمل بنا
بالرغم من كل ضعفاتنا. لماذا نيأس، إن الله يتحدث في البشر، هذا الذي تكلم في
العُلِّيقة المملوءة أشواكًا؟! إنه لم يحتقر العُلِّيقة! إنه يضيئ في أشواكي!
حقًا إن المتحدث نار آكلة «7أَمَّا هُوَ فَلاَ يَفْتَكِرُ هَكَذَا وَلاَ يَحْسِبُ
قَلْبُهُ هَكَذَا. بَلْ فِي قَلْبِهِ أَنْ يُبِيدَ وَيَقْرِضَ أُمَماً لَيْسَتْ
بِقَلِيلَةٍ»(سِفْرُ إِشَعْيَاءَ10: 7)، والدعوة صدرت عن النار
الإلهية، لكنها لا تؤذي مُوسَى بل تسنده وتلهبه...كما فعل الرُّوحِ الْقُدُسِ الناري
في التلاميذ، الذي أحرق ضعفاتهم وأعطاهم قوة للحياة الجديدة الكارزة «11أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلَكِنِ
الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ
حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ
الْقُدُسِ وَنَارٍ»(إِنْجِيلُ مَتَّى3: 11).
ب. إذ دعى الله مُوسَى النبي لم يحدثه
عن مؤهلاته للخدمة وإمكانياته البشرية بل حدثه عن نفسه، الإمكانيات الإلهية
المقدمة له، قائلاً له: «6ثُمَّ قَالَ: «أَنَا
إِلَهُ أَبِيكَ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ».
فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى اللهِ»(سِفْرُ
اَلْخُرُوجُ3: 6). وكانت هذه الكلمات تخرج بسلطان وقوة نارية حتى «فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأَنَّهُ خَافَ
أَنْ يَنْظُرَ إِلَى اللهِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ3: 6).
تحدث أيضًا عن قيامه هو بالخلاص، فقد رأى وسمع وعلِم مذلة شعبه، لذا فهو ينزل
لإنقاذهم...
أما سرّ قوة مُوسَى النبي فهو «12فَقَالَ: «إِنِّي أَكُونُ
مَعَكَ وَهَذِهِ تَكُونُ لَكَ الْعَلاَمَةُ أَنِّي أَرْسَلْتُكَ:
حِينَمَا تُخْرِجُ الشَّعْبَ مِنْ مِصْرَ تَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ»(سِفْرُ
اَلْخُرُوجُ3: 12).
وهو ذات الوعد الذي
يعطيه لجميع أنبيائه ورسله وكل العاملين في كرمه. فيقول ليشوع بن نون: «5لاَ يَقِفُ إِنْسَانٌ فِي وَجْهِكَ كُلَّ أَيَّامِ
حَيَاتِكَ. كَمَا كُنْتُ مَعَ مُوسَى أَكُونُ
مَعَكَ. لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ»(سِفْرُ
يَشُوع1: 5)، ويؤكد للنبي إِرْمِيَا «19فَيُحَارِبُونَكَ وَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَيْكَ لأَنِّي أَنَا مَعَكَ يَقُولُ الرَّبُّ لأُنْقِذَكَ»(سِفْرُ
إِرْمِيَا1: 19)، ويقول لتلاميذه: «20وَعَلِّمُوهُمْ
أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا
أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ»(إِنْجِيلُ
مَتَّى28: 20).
v اعتذار مُوسَى :
أراد مُوسَى أن يعتذر عن الخدمة
قائلاً: «11فَقَالَ مُوسَى لِلَّهِ: «مَنْ أَنَا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ
وَحَتَّى أُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ؟»(سِفْرُ
اَلْخُرُوجُ3: 11).
طبيعة مُوسَى الضعيفة بالرغم من كونه
من رجال الإيمان جعلته يتردد في قبول الدعوة، وربما كان ذلك من آثار فشله الأول
حين خرج إلى الخدمة متكلاً على ذراعه البشري. فما كان له أن يقول: «مَنْ أَنَا؟!» بعد أن عرف أن الله نفسه هو الذي
يرسله وهو الذي ينزل ليخلص.
أصر مُوسَى على إعفائه أكثر من مرة،
تارة يضع أسئلة واعتراضات، كأن يقول: «13فَقَالَ مُوسَى لِلَّهِ: «هَا أَنَا آتِي إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إِلَهُ آبَائِكُمْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ.
فَإِذَا قَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟»(سِفْرُ
اَلْخُرُوجُ3: 13)، والرب يُجيبه، وأخرى يقول: «1فَأَجَابَ مُوسَى: «وَلَكِنْ
هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي بَلْ
يَقُولُونَ لَمْ يَظْهَرْ لَكَ الرَّبُّ»(سِفْرُ
اَلْخُرُوجُ4: 1).
فيعطيه الرب إمكانية عمل آيات
ومعجزات...الخ، وثالثة يعترض بسبب ضعفه الشخصي قائلاً: «10فَقَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: «اسْتَمِعْ
أَيُّهَا السَّيِّدُ لَسْتُ أَنَا صَاحِبَ كَلاَمٍ مُنْذُ أَمْسِ وَلاَ أَوَّلِ
مِنْ أَمْسِ وَلاَ مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ
بَلْ أَنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ»(سِفْرُ
اَلْخُرُوجُ4: 10). والله يؤكد له أنه هو خالق الفم واللسان «12فَالآنَ اذْهَبْ وَأَنَا
أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ»(سِفْرُ
اَلْخُرُوجُ4: 12). إذ لا يجد أي حجة يقول: «13فَقَالَ: «اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ أَرْسِلْ
بِيَدِ مَنْ تُرْسِلْ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ4: 13)،
حتى حميَ غضب الله «14فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى مُوسَى وَقَالَ: «أَلَيْسَ هَارُونُ
اللاَّوِيُّ أَخَاكَ؟ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ
يَتَكَلَّمُ وَأَيْضاً هَا هُوَ خَارِجٌ لاِسْتِقْبَالِكَ. فَحِينَمَا
يَرَاكَ يَفْرَحُ بِقَلْبِهِ»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ4: 14)،
فأعطاه هرون شريكًا معه في الخدمة.
هكذا إذ يدعونا
الله للخدمة لا يتركنا نستعفى بل يقدم لنا إجابات عملية لكل تساؤلاتنا، ويسند كل
ضعف فينا، ويكمل كل نقص في إمكانياتنا، فهو الراعي الخفي لقطيعه المقدس.