مباحث
للعقلاء والمفكرين
المبحث الثالث
3
هل يعقل أن
اللهُ تجسَّد؟
إعداد
د. القس / سامي م. اسكندر
باحث ومحاضر في الدين المقارن
الفصل الثالث
هل ظهر الله بهيئة
منظورة في التوراة؟
1 ) ظهر
الله
لهاجر
عندما كَانَت هاجر في البرية، قيل بالوحي إنه ظهر لها ملاك
الله « وَقَالَ لَهَا مَلاَكُ
الرَّبِّ : تَكْثِيراً أُكَثِّرُ نَسْلَكِ فَلاَ يُعَدُّ مِنَ الْكَثْرَةِ». وَقَالَ لَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ: هَا أَنْتِ حُبْلَى فَتَلِدِينَ ابْناً وَتَدْعِينَ
اسْمَهُ إِسْمَاعِيلَ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ سَمِعَ لِمَذَلَّتِكِ. وَإِنَّهُ يَكُونُ
إِنْسَاناً وَحْشِيّاً يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ وَأَمَامَ
جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ». فَدَعَتِ اسْمَ الرَّبِّ الَّذِي تَكَلَّمَ مَعَهَا: «أَنْتَ إِيلُ رُئِي». لأَنَّهَا قَالَتْ: أَهَهُنَا أَيْضاً رَأَيْتُ بَعْدَ
رُؤْيَةٍ؟»([1]). فدعت اسم الرب
الذي تكلّم معها أنت إيل رئي أي أنت إله رؤية أو بتعبير آخر أنت إله حقيقي يمكن
رؤيته.
وكَلِمَةُ الرب هنا، ترد في الأصل العبري
يهوه أي الكائن بذاته وهو اسم الجلالة الذي يتفرد به، ولذلك قال لهاجر: تكثيراً
أكثّر نسلك بينما لو كَانَ ملاكاً عادياً، لكَانَ قد قال لها مثلاً: الرب يكثر
نسلك تكثيراً.
2 ) ظهر الله لإِبْرَاهِيمُ
وعندما كَانَ إِبْرَاهِيمُ الخليل جالساً مرة عند باب
خيمته، رأى ثلاثة رجال واقفين، فركض إليهم وتحدَّث معهم. فاتضح له أثناء الحديث أن
اثنين منهما كَانَا ملاكين، وأن الثالث كَانَ هو الرب نفسه.
وقد تحقق إِبْرَاهِيمُ من شخصية الثالث هذا
تحقّقاً كاملاً، ولذلك كَانَ يدعوه تارة المولى وتارة أخرى ديَّان كل الأَرْضُ «حَاشَا
لَكَ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا الأَمْرِ أَنْ تُمِيتَ الْبَارَّ مَعَ الأَثِيمِ
فَيَكُونُ الْبَارُّ كَالأَثِيمِ. حَاشَا لَكَ! أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لا
يَصْنَعُ عَدْلاً؟» ....فَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ: «إِنِّي قَدْ شَرَعْتُ أُكَلِّمُ الْمَوْلَى وَأَنَا تُرَابٌ
وَرَمَادٌ».([2])
كما قيل بالوحي عن هذا الشخص في خمس آيات
متتالية إنه الرب يهوه «فَقَالَ الرَّبُّ...».([3])
وعندما أمسك إِبْرَاهِيمُ السكين بعد ذلك
ببضع سنين، ليذبح ابنه اسحق، قيل بالوحي إن ملاك الرب ناداه: لا تفعل به
شيئاً...فدعا إِبْرَاهِيمُ اسم ذلك الموضع يهوه يرأه، أي الرب يرى «فَنَادَاهُ
مَلَاكُ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ: «إِبْرَاهِيمُ إِبْرَاهِيمُ». فَقَالَ: «هَأَنَذَا» فَقَالَ: «لا تَمُدَّ يَدَكَ
إِلَى الْغُلامِ وَلا تَفْعَلْ بِهِ شَيْئاً لأَنِّي الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ
خَائِفٌ اللَّهَ فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي». فَرَفَعَ
إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكاً فِي
الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ
مُحْرَقَةً عِوَضاً عَنِ ابْنِهِ. فَدَعَا
إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ «يَهْوَهْ يِرْأَهْ». حَتَّى إِنَّهُ
يُقَالُ الْيَوْمَ: «فِي جَبَلِ الرَّبِّ يُرَى».([4])
3 ) ظهر الله ليعقوب
وعندما كَانَ يعقوب في بيت خاله لابان، قيل
بالوحي إن ملاك الله قال له:...أنا إله بيت إيل «وَقَالَ
لِي مَلاكُ اللَّهِ فِي الْحُلْمِ: يَا يَعْقُوبُ. فَقُلْتُ: هَأَنَذَا.
فَقَالَ: ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ! جَمِيعُ الْفُحُولِ الصَّاعِدَةِ عَلَى
الْغَنَمِ مُخَطَّطَةٌ وَرَقْطَاءُ وَمُنَمَّرَةٌ لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ كُلَّ مَا
يَصْنَعُ بِكَ لابَانُ. أَنَا إِلَهُ بَيْتِ إِيلَ حَيْثُ مَسَحْتَ عَمُوداً.
حَيْثُ نَذَرْتَ لِي نَذْراً. الآنَ قُمِ اخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ وَارْجِعْ
إِلَى أَرْضِ مِيلادِكَ».([5])
وبعد ثلاث عشرة سنة بنى يعقوب مذبحاً للرب،
وقيل بالوحي إنه دعا المكَانَ إيل بيت إيل، لأن هناك ظهر له الله «وَبَنَى
هُنَاكَ مَذْبَحاً وَدَعَا الْمَكَانَ «إِيلَ بَيْتِ إِيلَ» لِأَنَّهُ هُنَاكَ
ظَهَرَ لَهُ اللَّهُ حِينَ هَرَبَ مِنْ وَجْهِ أَخِيهِ»([6]) وإيل كَلِمَةُ
عبرية معناها الله.
4 ) ظهر الله لموسى
وعندما كَانَ موسى يرعى غنماً في البرية،
قيل بالوحي إن ملاك الرب ظهر له بلهيب نار من وسط عليّقة. ولما دنا موسى إليها
ليراها، قيل بالوحي: «فَلَمَّا رَأَى
الرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ نَادَاهُ اللَّهُ مِنْ وَسَطِ الْعُلَّيْقَةِ
وَقَالَ: «مُوسَى مُوسَى». فَقَالَ: «هَئَنَذَا»....ثُمَّ قَالَ: «أَنَا إِلَهُ أَبِيكَ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ
وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ»...وَقَالَ اللَّهُ أَيْضاً لِمُوسَى: «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ: يَهْوَهْ إِلَهُ آبَائِكُمْ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ
وَإِلَهُ يَعْقُوبَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. هَذَا اسْمِي إِلَى الأَبَدِ وَهَذَا
ذِكْرِي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ».([7]) والعلّيقة نبات
متسلق أو متعلق، يعتمد في نموه أو تمدده على الأشجار أو الجدران التي يتسلق عليها
أو يتعلق بها، وهي لذلك أنسب رمز لضعف اليهود في أرض الفراعنة، وحاجتهم الماسة
وقتئذ إلى معونة الرب لهم. وعدم احتراق العلّيقة التي رآها موسى، على الرغم من
النيران التي كَانَت تحيط بها، إشارة إلى حفظ الله لبني إسرائيل من الفناء بيد
فرعون.
5 ) ظهر الله لبني إسرائيل
وعند خروج بني إسرائيل من مصر، قيل بالوحي
وكَانَ الرب يهوه يسير أمامهم «وَكَانَ
الرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَاراً فِي عَمُودِ سَحَابٍ لِيَهْدِيَهُمْ فِي
الطَّرِيقِ وَلَيْلاً فِي عَمُودِ نَارٍ لِيُضِيءَ لَهُمْ - لِكَيْ يَمْشُوا
نَهَاراً وَلَيْلاً»([8])، ولما اقترب فرعون
بجيوشه منهم قيل بالوحي: فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر إسرائيل، وسار وراءهم «فَانْتَقَلَ
مَلاكُ اللَّهِ السَّائِرُ أَمَامَ عَسْكَرِ إِسْرَائِيلَ وَسَارَ وَرَاءَهُمْ
وَانْتَقَلَ عَمُودُ السَّحَابِ مِنْ أَمَامِهِمْ وَوَقَفَ وَرَاءَهُمْ»([9]).
6 ) ظهر الله لمنوح وزوجته
لما ذهب منوح مع زوجته مرة إلى حقله، رأى
إنساناً، فسأله عن اسمه، فأجابه: لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب! ويتبيَّن في الفصل
التالي أنه كَانَ يسوع المسيح قبل ظهوره للعالم.
كما نعلم، أنه عجيب في كُلِّ شيء:
فهو غير المنظور والمنظور، وهو غير المتحيّز بحيزٍ ويظهر في حيزٍ، وهو الله وابن
الله معاً، وهو ابن الله وابن الإنسان أيضاً. فضلاً عن ذلك فهو عجيب في تجسده،
وعجيب في حياته على الأَرْضُ، وعجيب في موته، وعجيب في قيامته، وعجيب ... وعجيب...
وعندما تجلَّت لمنوح حقيقة هذا الإنسان، أثناء صعوده إلى السماء، سقط
هو وزوجته على وجهيهما إلى الأَرْضُ، ثم قال لها: نموت موتاً، لأننا قد رأينا الله
« فَكَانَ عِنْدَ
صُعُودِ اللَّهِيبِ عَنِ الْمَذْبَحِ نَحْوَ السَّمَاءِ أَنَّ مَلاكَ الرَّبِّ
صَعِدَ فِي لَهِيبِ الْمَذْبَحِ وَمَنُوحُ وَامْرَأَتُهُ يَنْظُرَانِ. فَسَقَطَا
عَلَى وَجْهَيْهِمَا إِلَى الأَرْضِ..».([10])
ومنوح هو أبو شمشون، وقد ظهر له الرب قبل
ولادة ابنه هذا لينبئه بولادته، ويعطيه بعض التعليمات الخاصة بتربيته، ومن أهمها
عدم إعطائه مسكرًا.
مما تقدم ، يتضح لنا أن الذي كَانَ يظهر للأنبياء، في هيئة ملاك تارة،
وفي هيئة إنسان تارة أخرى، ليعلن لهم في شخصه ذات الله ومقاصده، وكَانَ يُدعى
الملاك
( بال) التعريف، أو بملاك العهد. ولم يكن في الواقع ملاكاً أو إنساناً، بل كَانَ
هو الرب يهوه بنفسه، متنازلاً في
هيئة منظورة ، هذا طبعاً ما لم
يكن قد أتضح من حديثه، أنه الملاك ميخائيل أو الملاك جبرائيل، أو ملاك آخر. وذلك للأسباب الآتية:
1 ) إنه كَانَ يعلن بأنه الله ( يهوه ) لمن يظهر لهم ، وكَانَ الأنبياء أيضاً يعلنون أنه يهوه الله، إذ كَانَوا يعلنون عن حضرة الله ووجه
الرب التعبير الذي يعلن عن ذات الله أو الرب نفسه .
متل قول موسى
للشعب: «وَلأَجْلِ أَنَّهُ
أَحَبَّ آبَاءَكَ وَاخْتَارَ نَسْلهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ أَخْرَجَكَ بِحَضْرَتِهِ
بِقُّوَتِهِ العَظِيمَةِ مِنْ مِصْرَ».([11])
وقوله بالوحي: «وَكَانَ فِي هَزِيعِ
الصُّبْحِ أَنَّ الرَّبَّ أَشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ فِي عَمُودِ
النَّارِ وَالسَّحَابِ وَأَزْعَجَ عَسْكَرَ الْمِصْرِيِّينَ».([12])
وحـديث الله بالوحي لموسى: «فَقَالَ:
«وَجْهِي يَسِيرُ فَأُرِيحُكَ»...فَإِنَّهُ
بِمَاذَا يُعْلَمُ أَنِّي وَجَـدْتُ
نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ أَنَا وَشَعْبُكَ؟ أَلَيْسَ بِمَسِيرِكَ مَعـَنَا؟
فَنَمْتَازَ أَنَا وَشَعْبُكَ عَنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ
الأَرْضِ».([13])
وحـديث موسى للشعب: «يُبَارِكُكَ
الرَّبُّ وَيَحْرُسُكَ. يُضِيءُ الرَّبُّ بِوَجْهِهِ عَليْكَ وَيَرْحَمُكَ».([14])
2 ) إن الأعمال التي كَانَ يقوم بها
كالرعاية والهداية والخلاص، ومنح النعم والبركات، تدل على أنه كَانَ هو الله
بعينه. لأنه لا يمكن أن يقوم بهذه الأعمال كائن سواه.
3 ) إن كَلِمَةُ الملاك أو ملاك الرب، وردت
في الإنجيل مرادفاً لاسم الرب
أو الله. فقد قال زكريا النبي: « مِثْلَ
اللَّهِ، مِثْلَ مَلاكِ
الرَّبِّ أَمَامَهُمْ ».([15])
وقال الوحي عن يعقوب: «بِقُّوَتِهِ جَاهَدَ
مَعَ اللَّهِ. جَاهَدَ مَعَ الْمَلَاكِ وَغَلَبَ».([16]) وقال يعقوب عندما
بارك يُوسُفَ وَقَالَ:
« اللَّهُ
الَّذِي سَارَ أَمَامَهُ أَبَوَايَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ - اللَّهُ الَّذِي
رَعَانِي مُنْذُ وُجُودِي إِلَى هَذَا الْيَوْمِ الْمَلاكُ الَّذِي خَلَّصَنِي مِنْ
كُلِّ شَرٍّ يُبَارِكُ الْغُلامَيْنِ ».([17])
لأنه لم يكن في ذاته ملاكاً من ملائكة الله ، بل كَانَ، كما سبقت الإشارة بأنه يسوع المسيح. ومما تجدر الإشارة
إليه في هذه المناسبة أن الترجوم اليهودي قد أطلق على ملاك يهوه أو ملاك الرب اسم
شكينا، ومعناها سكنى الله أو حضوره. ويستنتج من الترجوم أن شكينا، لا يراد بها
مجرد معنى بل ذات، فكَانَت تُطلق في
الأصل على حلول مجد الرب بين الكروبين.([18]) في خيمة الاجتماع وهذا الحلول، كَانَ في الواقع مثالاً لما كَانَ
عتيداً أن يقوم به يسوع المسيح في الجسد على الأَرْضُ
وقت التجسد، وفي المؤمنين الحقيقيين بحلول روحه إلى الأبد. فقد قال الوحي عن يسوع المسيح «وَالْكَلِمَةُ صَارَ
جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ
مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً»،([19]) وأيضاً «إِنْ
أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلَامِي وَيُحِبُّهُ أَبِي وَإِلَيْهِ نَأْتِي
وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً»،([20]) و«إِنِ اتَّفَقَ
اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الْأرْضِ
فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي
الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ».([21])
وكَانَ العرب يعرفون شيئًا عن الشكينا، فكَانَوا ينطقونها (سكينة).([22]) والسكينة، وإن كَانَت
في اللغة هي الهدوء والطمأنينة، إلا إنها أيضاً
كما جاء في القاموس المحيط([23]) (شيء كَانَ له رأس من زبرجد وياقوت، وله جناحان) وهذا الوصف ينطبق إلى حد كبير على الكروب أو الملاك.
وقد وردت هذه الكَلِمَةُ عينها في سورة البقرة آية 248 فقيل إن آية
ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة. وقد ذهب علماء الدين، كما يقول الطبري إلى أن
السكينة لها وجه إنسان ثم هي ريح هفافة، وهذا الوصف يمكن أن ينطبق على الكروب أو
الملاك. أو أنها الرحمة والوقار. والرحمة يمكن أن تكون اسم غطاء التابوت، الذي كَانَ
يوجد عليه الكروبان، والوقار يمكن أن يكون وصفاً للحالة التي كَانَا يبدوان بها.([24]) ومما تجدر ملاحظته
أن القديس أثناسيوس، الذي عاش في القرن الرابع الميلادي، قد وصف التابوت بأنه تابوت السكينة قاصداً بذلك أن التابوت
هو رمز لسكنى الله مع شعبه.([25]) وهذا التابوت، كما
يتضح لكُلِّ من درس التوراة ورموزها، كَانَ رمـزاً للمسيح، ليس فقط من جهة حلوله بلاهوته وسط المؤمنين به،
بل أيضاً من جهات كثيرة خاصة بذاته وصفاته وأعماله.
وقد يسأل البعض: إذا كَانَ الأمر كذلك، فلماذا يبدو من بعض
الآيات الأخرى أن ملاك يهوه هو كائن غير يهوه ؟
مرّ بنا أن ملاك يهوه هو أقنوم الابن يسوع المسيح، الذي إذا نظرنا إليه من حيث الأقنومية، هو غير الآب والروح
القدس. ولكن إذ نظرنا إليه من حيث الجوهر، فهو واحد مع هذين الأقنومين في اللاهوت
بكُلِّ خصائصه وصفاته، كما يتضح من الآيات المذكورة أعلاه. ولذلك فهو من الناحية
الواحدة ملاك يهوه، ومن الناحية الأخرى هو يهوه بعينه. كما أنه من جهة الناسوت،
الذي اتخذه في العهد الجديد، (والذي كَانَ الوحي يعلن في العهد القديم أنه مزمع أن
يتخذه) هو ابن الإنسان. ومن جهة اللاهوت هو ابن الله الواحد مع الأقنومين الآخرين
في اللاهوت - ونظراً لأننا سنتحدث عن هذه الحقيقة بالتفصيل في الفصول المقبلة،
نكتفي هنا بهذه الملاحظة.
4 ) كَلِمَةُ ملاك ليست في الأصل اسمًا لهذا المخلوق ، بل إنها اسم للمهمة التي يقوم بها، وهي تبليغ الرسالة الملكلف بها ، فالاصطلاح ملاك الرب معناه حسب الأصل
المبلِّغ لرسائل الرب. ولما كَانَ الرب هو خير من يقوم بتبليغ رسائله (لأن كُلِّ
ما عداه محدود، والمحدود لا يستطيع أن يعلن إعلانًا كاملاً، عن ذاته أو مقاصده الغير محدوده) لذلك يحق أن يسمَّى الرب من جهة ظهوره لتبليغ رسائله بملاك
الرب بمعنى المُعلِن لمقاصده أو المعلن لذاته، أو بالحري بمعنى ذاته معلنًا أو
متجليًا لأنه لا يعلن ذات الله سوى الله.
بما أن يسوع
المسيح أو الكَلِمَةُ هو الذي يعلن الله (أو اللاهوت) منذ الأزل الذي
لا بدءة له، فلا شك أنه هو الذي كَانَ يظهر للأنبياء والأتقياء
السابق ذكرهم، تارة في هيئة ملاك وتارة أخرى في هيئة إنسان، ليعلن لهم ذات الله (اللاهوت)
مع مقاصده، وإليك بعض الأدلة التي تثبت هذه الحقيقة:
1
– الأصل العبري للقول ظهر الرب يُراد به ظهر كَلِمَةُ الرب « وَظَهَرَ الرَّبُّ
لأَبْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هَذِهِ الأَرْضَ...وَظَهَرَ لَهُ
الرَّبُّ وَقَالَ: «لا تَنْزِلْ إِلَى مِصْرَ. اسْكُنْ فِي الأَرْضِ الَّتِي
أَقُولُ لَكَ...فَظَهَرَ
لَهُ الرَّبُّ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَقَالَ: «أَنَا إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ
أَبِيكَ. لا تَخَفْ لأَنِّي مَعَكَ وَأُبَارِكُكَ وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ مِنْ
أَجْلِ إِبْرَاهِيمَ عَبْدِي»،([26]) ولذلك نرى أن أنقيلوس اليهودي([27]) استعاض في ترجمته عن اسم الله، بكَلِمَةُ ممراً أي الكَلِمَةُ. كما استعيض عن اسمه تعالى بهذه الكَلِمَةُ في
التلمود والمدراش معًا، وهما أهم الكتب المقدسة عند اليهود بعد التوراة.
2
- شهادة فيلون الفيلسوف اليهودي المشهور([28]) بأن اللوغوس أو الكَلِمَةُ هو الذي كَانَ يظهر في هيئة ملاك لإِبْرَاهِيمُ
وإسحق ويعقوب، وغيرهم من الآباء.
3
- كَانَ الأنبياء يعبّرون عن كيفية وصول الوحي إليهم بالقول: و«كَانَتْ
كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى
(...النبي) قائلاً».([29]) ومما يدل على أنه لا يُقصد بكَلِمَةُ الرب هنا مجرد كلام، بل
شخص أو ذات. ويُستنتج من أقوال الوحي أن لها الشخصية أو الذاتية ذات الكيان
الواقعي، والتي لها أيضاً عملاً وكلامً ، فقد قال حزقيال النبي بالوحي إن كَلِمَةُ الرب صارت إليَّ
قائلة: «يَا ابْنَ آدَمَ قَدْ جَعَلْتُكَ
رَقِيباً لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ. فَاسْمَعِ الْكَلِمَةَ مِنْ فَمِي وَأَنْذِرْهُمْ
مِنْ قِبَلِي...»،([30]) وهذا دليل على أن كَلِمَةُ الرب الذي كَانَ يظهر للأنبياء، لم يكن مجرد كلاماً كما ذكرنا، بل كَانَ يسوع
المسيح الذي هو الله أقنوم الكَلِمَةُ بعينه.
وكَلِمَةُ
«كَلِمَةَ» الواردة في هذه العبارة، ترد في الأصل العبري في صيغة
المذكر، وهي نفس الكَلِمَةُ الواردة في الآيتين السابقتين المقتبستين([31]) ومعناها الحرفي تدبير أو فكر ولذلك فالآية «يَا
ابْنَ آدَمَ قَدْ جَعَلْتُكَ رَقِيباً لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ. فَاسْمَعِ
الْكَلِمَةَ مِنْ فَمِي وَأَنْذِرْهُمْ مِنْ قِبَلِي».([32]) تُترجم، حسب
النص الحرفي للغة العبرية أن كَلِمَةُ الرب صار إليَّ قائلاً...مثل الآيتين
الواردتين في سفري زكريا وحجي تمامًا.
4 - كَانَت التوراة قد أعلنت بكُلِّ صراحة ، أن المسيح المزمع أن يأتي إلى العالم هو ملاك العهد « هَأَنَذَا أُرْسِلُ
مَلاكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ
السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَمَلاكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ.
هُوَذَا يَأْتِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. وَمَنْ يَحْتَمِلُ يَوْمَ مَجِيئِهِ
وَمَنْ يَثْبُتُ عِنْدَ ظُهُورِهِ؟ لأَنَّهُ مِثْلُ نَارِ الْمُمَحِّصِ وَمِثْلُ
أَشْنَانِ الْقَصَّارِ».([33])
وأنه
أيضاً هو ابن الإنسان أو إنسان «كُنْتُ
أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ
أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ»،([34]) و«شِبْهُ عَرْشٍ كَمَنْظَرِ
حَجَرِ الْعَقِيقِ الأَزْرَقِ وَعَلَى شِبْهِ الْعَرْشِ شِبْهٌ كَمَنْظَرِ
إِنْسَانٍ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقُ».([35])
وقد
أعلن العهد الجديد كذلك أن المراد بملاك العهد وابن الإنسان الوارد ذكرهما في هذه
الآيات هو المسيح أقنوم الكَلِمَةُ نفسه «فَإِنَّ
هَذَا هُوَ ﭐلَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاكِي ﭐلَّذِي
يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ...وَحِينَئِذٍ
تَظْهَرُ عَلامَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ
قَبَائِلِ الأَرْضِ وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ
السَّمَاءِ بِقُّوَةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ»،([36]) مما يدل على أنه ذات المولى الذي كَانَ يظهر للأنبياء
والأتقياء في هيئة ملاك أو إنسان في العهد القديم.
5 - معنى ملاك في الأصل رسول. وإذا رجعنا إلى الإنجيل وجدنا أن أقنوم الكَلِمَةُ أو المسيح يُدعى (من ناحية كونه
ابن الإنسان) رسولاً. فقد قيل عنه إنه رسول اعترافنا «لاحِظُوا
رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ الْمَسِيحَ يَسُوعَ»،([37]) وإنه أُرسل من عند الله لنا. أو بتعبير آخر إنه رسول الله (أو
اللاهوت) لنا «وَلَكِنْ لَمَّا
جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللَّهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ،
مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ»،([38]) لأنه هو الذي يعلنه ويُظهره. وطبعًا ما كَانَ من الممكن
لغيره أن يقوم بهذه المهمة، لأن كُلِّ ما عداه مخلوق، والمخلوق محدود، والمحدود لا
يستطيع أن يعلن غير المحدود.
إلى
إللقاء في
الفصل الرابع :
كيف ظهر الله للبشر في الإنجيل ؟
[18] وهما تمثالا الملاكان، اللذان كانا على غطاء التابوت في قدس الأقداس (خروج اَلأَصْحَاحُ 37 الأيات 6-9).
[25] التوراة، العهد القديم في الكتاب
المقدس، سفر صموئيل الأول اَلأَصْحَاحُ 5و6، صموئيل الثاني اَلأَصْحَاحُ 6.
[26] التوراة، العهد القديم في الكتاب المقدس، سفر التكوين اَلأَصْحَاحُ 12 الأية 7، اَلأَصْحَاحُ 26 الأية 2 و24.
[31] التوراة،
العهد القديم في الكتاب
المقدس، سفر زكريا اَلأَصْحَاحُ 1 الأية 1، وحجي اَلأَصْحَاحُ 1 الأية 1.
0 التعليقات:
إرسال تعليق