مباحث
للعقلاء والمفكرين
المبحث الثالث
3
هل يعقل أن
اللهُ تجسَّد؟
إعداد
د.القس / سامي منير اسكندر
باحث ومحاضر في الدين المقارن
الفصل الأول
هل هُنَاكَ حاجة إِلَى
تجسَّد الله؟
عزيزي هل رأيت مرةً شخصاً يسقط فِي رمالٍ متحركةٍ
؟!!
لا أعتقد..ولكن الشخص الَّذِي
يسير فِي طريق رملي ويسقط فجأة فِي رمال متحركة يواجه
أصعب المواقف...لأنه لا يستطيع أبدا أن ينقذ
نفسه...خاصة إذا اكتشف أنه فِي مِنْطقة رمالية متحركة فبعد فترة مِنْ الوقت تصبح الأرض الثابتة بعيدة عنه.
وصعوبة الرمال المتحركة
تكمِنْ فِي أنه كلما حاول أن يخلص الإِنْسَانِ نفسه يجد أنه
قد
تورط أكثر فأكثر...لأن طبيعة هذه الرمال أنها تجذب مِنْ يخوض فيها إِلَى
أسفل وبعدها الهلاك.
·
إذاً كيف يمكن النجاة مِنْ مثل هذه الرمال؟
ببساطة لابد مِنْ وجود
شخصٍ أخر يقف عَلَى أرضٍ صلبة وثابتة
وويكون
قوياً ليستطيع أن يمد يده ويسحبه مِنْ هذه
الرمال،
ليس هَذَا فحسب ولكن أن يكون لديه مِنْ القوة الفائقة القادرة
عَلَى مقاومة جذب الرمال له.
وهذه الحقيقة عن الرمال
المتحركة تذكرني بحال الجنس البشري, فمِنْذ سقوط آدم فِي
الخطية والبشرية تنزلق فِي هاوية سحيقة, تحاول الخروج مِنْها مِنْ
خلال التقدم العلمي أو الاكتشافات
أو القيم والأخلاقيات ، ولكن الحقيقة
أن كلما
تقدمت العلوم اكتشف الإِنْسَانِ فسادً أكثر.
فمِنْذ فجر التاريخ والإِنْسَانِ
يكتشف كل يوم أنه فاسد ويحتاج إِلَى الإصلاح.
وقد
يحاول
أن يرضي الله أو يتصالح مَعَه مِنْ
خلال عبادته، وهو بهَذَا يحاول أن يشعر بالرضى تجاه
عبادته...ولكنه لا يحصد إلا الفشل...لماذا؟...لأن فساد الطبيعة
البشرية يحول مانعاً ومبعداً له عن قداسة الله فينجذب إِلَى أسفل
فِي أهوال وظلمة الخطية...لِذَلِكَ يحتاج الإِنْسَانِ
إِلَى مخلص قوي وعلى أرض ثابتة وصلبة ليساعده وينقذه.
·
ولكن كيف السبيل إِلَى النجاة والخلاص ؟!
إنه لسان حال كل شخص مِنْزلق
فِي رمال الخطية المتحركة، فكلما حاول النجاة انزلق
أكثر. لذا كان السبيل لإنقاذ نفسه مِنْ
وجود
شخص آخر يقف عَلَى أرض صلبة وثابتة بمَعَنى أن
يكون غير فاسدٍ فِي طبيعته باراً وقادراً
عَلَى أن يمد يده لينقذه مما هُوَ فِيه.
·
هل هذه الصفات موجودة فِي أي شخص؟
بالطبع لا :
لأن
الجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله، فكل بني آدم خطاء
وكل بني البشر هالك، لِذَلِكَ كان هُنَاكَ حتمية للتجسدالإلهي..
·
ولكن ما هُوَ التجسد ؟
التجسد هُوَ ظهور كلمة الله فِي صورة
إِنْسَانِ، ويكون دور هَذَا الإِنْسَانِ
أن يُصالح الجنس البشري مَعَ الله، تُرى...مِنْ يكون هَذَا الشخص؟!
·
الحاجة لظهور الله للبشر.
حيث أن آدم بسقوطه فِي الخطيئة فقد حياة الاستقامة والقداسة الَّتِي كان قد خُلق عليها، وتبعاً فقد امتياز الاتصال الروحي بالله ومَعَرِفَةِ ذات الله ومَعْرِفَةِ مقاصده مَعْرِفَةِ صحيحةً (لأنه ليس هُنَاكَ علاقة بين الخطيئة والبر، وبين الظلمة والنور).
وبما أَنَّنَا نسل آدم، فقد ورثنا بحكم قانون الوراثة، طبيعته الخاطئة([1])، وبالتالي عَجزْنا عن الاتصال بالله، ومَعْرِفَةِ ذاته ومقاصده، لأن الله قدوس يكره الخطيئة، لكنه لمحبته يشفق علي الخاطيء ويهتم به (لأنه قد سبق وخلقنا عَلَى صورته كشبَهه) فقبل أن يخلق الإِنْسَانِ قال:«نَعْمَلُ
الإِنْسَانِ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا»([2]). وفِي الأمر هَذَا يتفق فِيها الإسلام مَعَ المسيحية، إذ جاء فِي سورة الأخبار أن آدم خُلق عَلَى صورة
الرحمِنْ
([3]) فكان مِنْ البديهي ألاّ يتركنا وشأَنَّنَا بعد سقوطنا، بل أن
يتولّى هدايتنا وإرشادنا إِلَى الحالة السامية الَّتِي كان قد خلقنا عليها أولاً.
وبما أَنَّنَا لا نستطيع أن نستفِيد مِنْ هدايته وإرشاده، طالما كانا فِي
مَعَزل عنه، فقد كان مِنْ البديهي أن يتفضَّل علينا ويظهر لنا ليعلن لنا عن محبته وغفرانه، متفقاً هَذَا مَعَ
جوده وصلاحه.
·
مَعَني التجسّد:
\هو أن الله أخـذ جـسداً وصار إِنْسَانِاً
وهَذَا التجسد حدث عندما حل الروح القدس عَلَى العذراء مريم وحل فِي بطنها «هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً
وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ»([4]).
إن كلمة «التجسّد» فِي الإنجيل تدل عَلَى إتحاد أقنوم كلمة الله
الَّذِي هُوَ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بالطبيعة البشرية. وهُوَ إتحادٍ فريدٍ في نوعه، وعجيب في
تحقيقه، ومستمر إِلَى الأبد يقول الأب فرنسيس فرييه: "إن عقيدة التجسّد
مِنْ أشد العقائد الإيمانية رسوخاً في المسيحية، وقد أصبحت عَلَى تتابع الأجيال
تراثاً عزيزاً في الفكر المسيحي".
وأصل كلمة التجسّد يرجع إِلَى
قول الإنجيل بحسب يوحنا الرسول: «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً»([5]).
ولكن السؤال لماذا
استخدم الوحي كلمة «صار جسدًا» للدلالة عَلَى إتحاد الْكَلِمَةُ
بالطبيعة البشرية الكاملة؟
ألم يكن مِنْ الأفضل
استخدام كلمة «صار نفسًا»؟ ولاسيما أن النفس أشرف مِنْ
الجسد، وخاصة أن الدافع وراء استخدام التعبير هُوَ دلالة الجزء عَلَى الكل.
إن الجسد هُوَ التعريف الأقرب إِلَى مَعَرفة
الإِنْسَانِ مِنْ النفس، خاصة أن بقية الخلائق تحمل في داخلها نفس، كالنبات والحيوانات والطيور…الخ. ومِنْ ناحية أخري، إن الجسد إنما
يعبر عن تواضع كلمة الله الَّذِي مِنْ أجلنا نحن البشر ومِنْ أجل خلاصنا أخذ
طبيعتنا البشرية. فيقول د.داود رياض: أن الترجمة الأفضل «اتخذ جسّد»، فليس في الله تغير أو صيرورة. الأعمق والأهم في
قوله «وَالْكَلِمَةُ
صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا».
أن
«الْكَلِمَةُ»
([6]) هُوَ إبن الله، الخالق وهو
حياة
الناس ونورهم، فالْكَلِمَةُ أي الله، فالرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ الْكَلِمَةُ هُوَ
الله وهو ينبوع الحياة.
وقوله
«صار» أي أن
الله
تدخّل بصورة واضحة بالتجسد في التاريخ البشريّ، بدخوله في الطبيعة البشريّة
، وبهَذَا
دشن
كياناً جديداً .
«صار جسداً » أي أن إبن الله
صار لحماً
وبشراً، وتجسد يسوع بشراً ليست عملية
أتخاذ رداء خارجي كأنهاعملية تعبير وهمي لتدخّل
الله، إنّما هي إلتزام مِنْ الله تجاه الإِنْسَانِ وإتحاده بطبيعة إِنْسَانِية مَعَيّنة
وبشكل واضح ومحدد، مِنْ دون التخلّي عن كونه الْكَلِمَةُ
الإلهية الأزالية ، وبدون امتزج أو
اختلاط لطبيعته البشري بالطبيعة الإلهية،
وفي نفس الوقت دون أن يتخلّى عن كيانه الإلهي، فبالتجسد أخذ جسدي. وهنا عظمة الإِنْسَانِ، بل
عظمة
التجسّد، أن الله صار مثلي، الله صار لي، الله صار مَعَي،
الله صار فيّ، الله صار لأجلي.
«صار جسداً»، أخذ كياني البشري كله،
إله مِنْ إله، نور مِنْ نور، إله حق مِنْ إله حق صار بشراً وتجسّد مِنْ مريم
العذراء...
إن
التجسد
إذاً هُوَ تعبير بشري رائع، عن
عملية
توطين الإله بالبشر ، إنها الْكَلِمَةُ
الصحيحة، التجسّد هُوَ فعلاً توطينٌ بشري مِنْ قبل الإله،
جعل مبيته فينا وعندنا ولنا، انتقل مِنْ وطنه السماوي إِلَى وطن البشر دون أن
يتخلّى عن هُوَية ألوهيته.
·
كلمة الجسد في لغات العالم
يستخدم الإنجيل كلمة جسّد للتعبير عن «الطبيعة البشرية»، فإن كلمة «جسد»
يقابلها في
العبرية
كلمة «Basar»، وفي الأصل يعني هَذَا اللفظ في اللغة
العبرية يعبر عن الجزء الحسي مِنْ الجسم الحي، أي «اللحم» المجرد مِنْ العظم والدم. كما يفيد صلة قرابة الجسد . ولكنه تحول إِلَى المَعَني المجرد العام «الطبيعة
البشرية».
وأما في
اليونانية
تأتي كلمة
«Sarx»، وهي تعني مَعَاني كثيرة مِنْها:
1) أنسجة الجسم في مقابل العظام والدم «كَيْفَ يُقَامُ الأَمْوَاتُ وَبِأَيِّ جِسْمٍ يَأْتُونَ؟...وَالَّذِي تَزْرَعُهُ لَسْتَ تَزْرَعُ الْجِسْمَ...وَلَكِنَّ
اللهَ يُعْطِيهَا جِسْماً كَمَا أَرَادَ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُزُورِ جِسْمَهُ...أُعْطِيتُ
شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ...»([7]).
2)
الجسم نفسه بما فِيه مِنْ اللحم والدم «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مِنْ الْتَصَقَ بِزَانِيَةٍ
هُوَ جَسَدٌ وَاحِدٌ لأَنَّهُ يَقُولُ: «يَكُونُ الاثْنَانِ
جَسَداً وَاحِداً...»([8])
وقد تعني الإِنْسَانِ بالإشارة إِلَى
أصله ونسبه الأرضي «عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ
جِهَةِ الْجَسَدِ..لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ الْجَسَدِ...أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ بَلْ
أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً،...انْظُرُوا إِسْرَائِيلَ حَسَبَ الْجَسَدِ»([9]).
وقد يؤخذ لفظ «التجسّد» مِنْ وجهتين:
أولاً: المعني الفعلي: أي الفعل الَّذِي به رفع الله طبيعة بشرية مَعَينة
قد تكونت فِي أحشاء مريم العذراء، وجعلها تقوم فِي الأقنوم الثاني مِنْ الثالوث
الأقدس.
ثانيًا: المَعَني
الانفعالي:
أي الاتحاد العجيب والفريد الَّذِي تم بين الطبيعتين الإلهية والإِنْسَانِية فِي
أقنوم واحد هُوَ أقنوم الْكَلِمَةُ ابن الله. فالْكَلِمَةُ الإلهي – دون أن يفقد شخصيته الإلهية – اتَّخذ طبيعة إِنْسَانِية
كاملة.
لِذَلِكَ التعبير «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا»، فِي اليونانية لا يفِيد التغير، لكنه يفِيد إتخاذ الْكَلِمَةُ جسداً بما
يتناسب مَعَ الإعلان لنا وضعف إدراكنا، تحقيقًا للهدف مِنْ اِتخاذ هَذَا الجسّد وهو تحقيق الفداء والكفارة. فإن
كلمة «الجسد» تعبر عن الإِنْسَانِ ككل فِي طبيعته
البشرية، أي جسدًا ونفسًا وروحًا. كما قيل بيوئيل النبي: « وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ (جسد
فِي الترجمة السبعينية)»([10]).
وقانون الإيمان يقول :
((نؤمن برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد...هَذَا الَّذِي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء
وتجسد من الروح القدس. ومن مريم العذراء،
تأنس وصلب عنا عَلَى عهد بيلاطس البنطي، تألم وقبر وقام من الأموات فِي اليوم
الثالث كما فِي الكتب…)).
فقانون الإيمان يقرر أن الغرض مِنْ تجسّد
الْكَلِمَةُ (أي الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ) هُوَ خلاصنا، وهَذَا جعل الرَّبِّ
يَسُوعَ الْمَسِيحِ يتخذ جسداً بشرياً، لكي يبيد سلطان الموت الَّذِي ملك علينا
بسبب خطايانا، لِذَلِكَ يقول الإنجيل: «فَإِذْ
قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلادُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً
كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِاَلْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ
الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أَولئِكَ الَّذِينَ - خَوْفاً مِنَ
الْمَوْتِ - كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ»([11]).
v غرض الله مِنَ خلق الإِنْسَانِ
مِنَ البدء أعلن الله عهده للإِنْسَانِ،
بالرعاية والحفظ لأن آدم الوحيد فِي كل الخليقة الَّذِي يحمل صورة الله وسلطانه،
كما يقول الإنجيل: «وَقَالَ اللهُ : نَعْمَلُ الإِنْسَانِ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا،
فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ، وَعَلَى
الْبَهَائِمِ وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي
تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ»([12]) فأعد الله لآدم ونسله، كل شئ لأجل تحقيق
الهدف الأعظم وهو أن يشترك آدم ويتحد مَعَ الله فِي شركة رائعة فريدة مِنَ نوعها،
وبما أن آدم يحمل صورة الله فلابد له أن يحيا إِلَى الأبد مَعَ الله، لِذَلِكَ
أوجد الله لآدم الشجرة الَّتِي فِي وسط الجنة، كم يقول الوحي: «وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ
لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ. وَشَجَرَةٍ الْحَياةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ…»([13]). كما أعطاه وصية «وأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلاً: مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ
الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ
فَلا تَآْكُلْ مِنْهَا. لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلً مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ»([14])، والَّتِي مِنَ خلال الالتصاق بها
وحفظها فِي قلبه، يكون معدّاً للشركة الأبدية والاتحاد مَعَ الله.
v
السقوط والانفصال
لقد أخفق آدم فِي إصابة الهدف، وذلك مِنَ
خلال استخدامه الغير سليم لحريته، فوقع فريسة لفكر العصيان والتمرد وفعل الشر إذ فكر أن يكون كالله، فقد قال الشيطان: «بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلانِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ
أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرِّ»([15])، وبالرغم مِنَ الوصية كان اختيار آدم
وحواء أختيراً سيئاً «أَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا، وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً
مَعَهَا فَأَكَلَ»([16]) وبهَذَا استحقا حكم الموت الَّذِي تحمله الوصية فِي
داخلها، وهو الانفصال بعيداً عن الاتحاد والشركة مَعَ الله. والنتيجة الحتمية أن
الإِنْسَانِ بدأ يفقد مجد الله فِيه (وهو نفس صورة الله)، لِذَلِكَ يصف الوحي حالة
الإِنْسَانِ بالقول «إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا
وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ»([17]).
ومِنْ ذلك الوقت لم يبقَ الإِنْسَانِ
بعد فِي الصورة الَّتِي خُلق عليها، بل اشتد عصيانه لدرجة أن الوحي المقدس يصفهم
بالقول: «لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا
اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي
أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ
أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاء، وَأَبْدَلْوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لا
يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ،
وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ، لِذلِكَ أَسْلمَهُمُ اللهُ أَيْضاً فِي
شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى النَّجَاسَةِ، لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ
ذَوَاتِهِمِ. الَّذِين اسْتَبْدَلُوا حَقَّ اللهِ بِالْكَذِبِ، وَاتَّقَوْا
وَعَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ، الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَي الأَبَدِ
آمِينَ»([18]).
وصار الجميع تحت الخطية «إِذِ الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ
صَلاحْاً لَيْسَ وَلا وَاحِدٌ»([19]). وساد عليهم الموت كملك«لكِنْ قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى مُوسَى، وَذَلِكَ
عَلَى الَّذِين لَمْ يُخْطِئُوا عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي آدَمَ، الَّذِي هُوَ
مِثَالُ الآتِي»([20]). لأنهم تعدوا الوصية، لِذَلِكَ يقول
القديس أثناسيوس الرسولي: (لأن تعديهم الوصية أعادهم إِلَى حالتهم الطبيعية، حتى كما نشأوا مِنْ
العدم، كذلك يجب أن لا يتوقعوا إلا الفساد الَّذِي يؤدي إِلَى العدم مَعَ توالي
الزمِنْ. لأنهم إن كانوا بحضور «الْكَلِمَةُ» (وقت
الخلق) وتعطفه قد دعوا إِلَى
الوجود، مِنْ الحالة الطبيعية الأولي، وهي عدم الوجود، فإن بطبيعة الحال متي
تجردوا مِنْ مَعْرِفَةِ الله عادوا إِلَى العدم (إِلَى ما لا وجود له) ولعل اثناسيوس يقصد «العدم
جسديًا»([21])، وبالتالي يجب أن تكون النتيجة بطبيعة
الحال الحرمان إِلَى الأبد مِنْ الوجود، والشركة مَعَ الله ، طالما كانوا يستمدون وجودهم مِنْ الله
الموجود، فصارت النتيجة الاِنحلال والفساد، وهَذَا هُوَ ما أعلنه لله لآدم بعد
سقوطه: «لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإِلَى
تُرَابٍ تَعُود»([22]).
إلى اللقاء في
الفصل الثاني
كيف يظهر الله للبشر؟
[7] الإنجيل، رسالة بولس الرسول الأول لأهل كورنثوس اَلأَصْحَاحُ 15 الآية 39-50؛ رسالة بولس الرسول الثانية لأهل كورنثوس اَلأَصْحَاحُ 12 الآية
7.
[9] الإنجيل، رسالة بولس الرسول الأول لأهل رومية اَلأَصْحَاحُ 1 الآية
3؛
اَلأَصْحَاحُ 9 الآيات 3و8؛ ورسالة بولس الرسول الأول لأهل كورنثوس اَلأَصْحَاحُ
10 الآية 18.
0 التعليقات:
إرسال تعليق