إعلان الضَّمِير في الإِعْلاَنِ
الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ
إعداد
د. القس سامي منير إسكندر
لا يوجد إعلان يشهد بوجود إعلان الضَّمِير في الإِنْسَان مثل الإِعْلاَنِ
الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ. ولنفحصْ بعض أشهر الأمثلة على ذلك. وإذا ركَّزنا أولاً
على أمثلة سلبية، نجد أن السلوك غير اللائق يُثير في الإِنْسَان الخجل والخوف والمعاناة
ومشاعر الذنب، بل وحتى اليأس.
فمثلاً آدم وحواء، عندما أكلا من الثمرة المُحرَّمة،
شعرا بالخجل وحاولا أن يختبئا من الله «7فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا
عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ. 8وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلَهِ مَاشِياً فِي
الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ
وَجْهِ الرَّبِّ الإِلَهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. 9فَنَادَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ: «أَيْنَ
أَنْتَ؟». 10فَقَالَ: «سَمِعْتُ
صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ»(سِفْرُ
التَّكْوِينِ3: 7-10).
وقايين، بعد أن قتل أخاه هابيل حسداً، بدأ
بعد ذلك يشعر بالخوف على حياته «8وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ
كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ. 9فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «أَيْنَ هَابِيلُ
أَخُوكَ؟» فَقَالَ: «لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟» 10فَقَالَ: «مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ
صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ. 11فَالْآنَ
مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ
مِنْ يَدِكَ! 12مَتَى عَمِلْتَ
الأَرْضَ لاَ تَعُودُ تُعْطِيكَ قُوَّتَهَا. تَائِهاً وَهَارِباً تَكُونُ فِي
الأَرْضِ». 13فَقَالَ قَايِينُ
لِلرَّبِّ: «ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ. 14اإِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ
وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهاً وَهَارِباً فِي الأَرْضِ فَيَكُونُ
كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي»(سِفْرُ
التَّكْوِينِ4: 8-14).
والملك شاول، بعد أن اضطهد داود البريء، بكى في
خجله، عندما وجد أن داود بدلاً من الانتقام منه بالشر، حفظ حياته «21فَقَالَ شَاوُلُ: «قَدْ أَخْطَأْتُ. ارْجِعْ يَا ابْنِي
دَاوُدُ لأَنِّي لاَ أُسِيءُ إِلَيْكَ بَعْدُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ نَفْسِي كَانَتْ
كَرِيمَةً فِي عَيْنَيْكَ الْيَوْمَ. هُوَذَا قَدْ حَمِقْتُ وَضَلَلْتُ كَثِيراً
جِدّاً». 22فَأَجَابَ دَاوُدُ:
«هُوَذَا رُمْحُ الْمَلِكِ, فَلْيَعْبُرْ وَاحِدٌ مِنَ الْغِلْمَانِ وَيَأْخُذْهُ.
23وَالرَّبُّ يَرُدُّ عَلَى كُلِّ
وَاحِدٍ بِرَّهُ وَأَمَانَتَهُ، لأَنَّهُ قَدْ دَفَعَكَ الرَّبُّ الْيَوْمَ
لِيَدِي وَلَمْ أَشَأْ أَنْ أَمُدَّ يَدِي إِلَى مَسِيحِ الرَّبِّ. 24وَهُوَذَا كَمَا كَانَتْ نَفْسُكَ عَظِيمَةً
الْيَوْمَ فِي عَيْنَيَّ, كَذَلِكَ لِتَعْظُمْ نَفْسِي فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ
فَيَنْقُذْنِي مِنْ كُلِّ ضِيقٍ». 25فَقَالَ
شَاوُلُ لِدَاوُدَ: «مُبَارَكٌ أَنْتَ يَا ابْنِي دَاوُدُ فَإِنَّكَ تَفْعَلُ
وَتَقْدِرُ. ثُمَّ ذَهَبَ دَاوُدُ فِي طَرِيقِهِ وَرَجَعَ شَاوُلُ إِلَى مَكَانِهِ»(سِفْرُ صَمُوئِيلَ الأَوَّلُ 26: 21-25).
والكَتَبَة
والفرِّيسيون، بعد أن جاءوا بالمرأة الزانية إلى الرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ، تفرَّقوا بخجل عندما شعروا بخطاياهم التي وبَّخهم عليها الرب «2ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الْهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ،
وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ. 3وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ
وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي
الْوَسَطِ 4قَالُوا لَهُ: «يَا
مُعَلِّمُ، هَذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، 5وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ
مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» 6قَالُوا
هَذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى
الأَرْضِ. 7وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا
يَسْأَلُونَهُ انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ
فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!» 8ثُمَّ
انْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا8: 2-11).
وأحياناً تصير أوجاع الضَّمِير غير محتملة لدرجة أن الإِنْسَان يُفضِّل أن يُنهي حياته بالانتحار. وأوضح الأمثلة على ذلك نجدها في يهوذا
الإسخريوطي «5فَطَرَحَ
الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ،ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ»(إِنْجِيلُ
مَتَّى27: 5).
وبصفة عامة، فإنَّ جميع الخطاة والمؤمنين وغير المؤمنين،
يشعرون بالمسئولية عن سلوكهم. وهكذا تتحقَّق نبوَّة الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ
عن الخطاة أنهم في نهاية العالم، عندما يرون اقتراب دينونة الله، «30حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ:
اسْقُطِي عَلَيْنَا! وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا!»(إِنْجِيلُ
لُوقَا23: 30)، «16وَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ وَالصُّخُورِ: «اُسْقُطِي
عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ
الْخَرُوفِ،»(سِفْرُ رُؤْيَا يُوحَنَّا اللاَّهُوتِيِّ6: 16). ويحدث
أحياناً، أنَّ الإِنْسَان
- وهو في اضطراب وفي دوامة ألم شديد، أو مغمور بالخوف - يبدو أنه لا يُصغي
لصوت الضَّمِير،
ولكنه فيما بعد يشعر بتبكيت الضَّمِير بقوة مُضاعفة!
عندما صار إخوة يوسف الصدِّيق في ضيقة، تذكَّروا خطية
بيعهم لأخيهم وتسليمه للعبودية، وأدركوا أنهم يُعاقبون على قسوتهم «21وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «حَقّاً إِنَّنَا
مُذْنِبُونَ إِلَى أَخِينَا الَّذِي رَأَيْنَا ضِيقَةَ نَفْسِهِ لَمَّا
اسْتَرْحَمَنَا وَلَمْ نَسْمَعْ. لِذَلِكَ جَاءَتْ عَلَيْنَا هَذِهِ الضِّيقَةُ»(سِفْرُ
التَّكْوِينِ42: 21).
وداود النبي، أدرك خطية زناه بعد أن وبَّخه عليها
ناثان النبي «13فَقَالَ دَاوُدُ لِنَاثَانَ: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى
الرَّبِّ». فَقَالَ نَاثَانُ لِدَاوُدَ: «الرَّبُّ أَيْضاً قَدْ نَقَلَ عَنْكَ
خَطِيَّتَكَ. لاَ تَمُوتُ»(سِفْرُ صَمُوئِيلَ الثَّانِي12:
13). والرسول بطرس المندفع، أنكر الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ تحت ضغط الشعور
بالخوف، ولكنه لما سمع صياح الديك تذكَّر نبوة الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ عنه
وبكى بكاءً مُرّاً. واللص اليمين، أدرك، وهو مُعلَّقٌ على صليبه بجوار الرب قبل
موته فقط، أن آلامه كانت جزاءً عادلاً لجرائمه «41أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لأَنَّنَا نَنَالُ
اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي
مَحَلِّهِ»(إِنْجِيلُ لُوقَا23: 41).
وزكَّا العشَّار، بعد أن تأثَّر بحب الرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ، تذكَّر إساءاته للناس التي ارتكبها بجشعه، وقرر أن يُصحح أخطاءه التي
ارتكبها «8فَوَقَفَ
زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: «هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي
لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ
أَضْعَافٍ»(إِنْجِيلُ لُوقَا19: 8).
ومن الناحية الأخرى، عندما يكون الإِنْسَان على دراية ببراءته، فإن ضَّمِيره
الصافي يُقوِّي رجاءه في الله. فمثلاً، عندما كان أيوب البار يتألم، عَلِمَ أن سبب
ذلك لم يكن هو ارتكابه لأيَّة خطايا، بل إن ذلك كان في خطة الله وكان يترجَّى رحمة
الله «6تَمَسَّكْتُ بِبِرِّي وَلاَ أَرْخِيهِ. قَلْبِي لاَ
يُعَيِّرُ يَوْماً مِنْ أَيَّامِي»(سِفْرُ
أَيُّوبَ27: 6).
وكذلك الملك حزقيَّا، عندما شعر أنه سيموت بمرض مستعصٍ،
تعافَى عندما توسَّل إلى الله من أجل الشفاء مكافأةً له على أعماله الصالحة «3آهِ يَا رَبُّ، اذْكُرْ كَيْفَ سِرْتُ أَمَامَكَ
بِالأَمَانَةِ وَبِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَفَعَلْتُ الْحَسَنَ فِي عَيْنَيْكَ». وَبَكَى
حَزَقِيَّا بُكَاءً عَظِيماً. 4وَلَمْ
يَخْرُجْ إِشَعْيَاءُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْوُسْطَى حَتَّى كَانَ كَلاَمُ
الرَّبِّ إِلَيْهِ: «5ارْجِعْ وَقُلْ
لِحَزَقِيَّا رَئِيسِ شَعْبِي: هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ دَاوُدَ أَبِيكَ:
قَدْ سَمِعْتُ صَلاَتَكَ. قَدْ رَأَيْتُ دُمُوعَكَ. هَئَنَذَا أَشْفِيكَ. فِي
الْيَوْمِ الثَّالِثِ تَصْعَدُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ»(سِفْرُ
اَلْمُلُوكِ الثَّانِي20: 3-5).
والرسول بولس، الذي تكرَّست حياته لله ولخلاص
البشر، لم يَخَفْ من الموت، بل إنه رغب أن يستريح من أتعاب جسده ويُكافَأ بوجوده
مع الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ إلى الأبد «23فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ الاِثْنَيْنِ: لِيَ اشْتِهَاءٌ
أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً»(رِّسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ فِيلِبِّي1: 23).
وبالنسبة للخاطئ، لا يوجد ارتياح وسعادة أعظم من أن ينال
المغفرة وسلام الضَّمِير.
والإنجيل غنيٌّ بأمثلة التوبة. فالمرأة الخاطئة، عندما نالت مغفرة خطاياها، اعترفت
بفضل الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ وغسلت قدميه بدموعها وجفَّفتهما بشعر رأسها «38وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً،
وَابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ
رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ»(إِنْجِيلُ
لُوقَا7: 38).
ومن الناحية الأخرى، فإنَّ إغفال صوت الضَّمِير مع تواتر الخطايا، يُظلِم
النفس لدرجة أنَّ الإِنْسَان
يُقاسي انكسار سفينته من جهة الإيمان «19وَلَكَ إِيمَانٌ وَضَّمِير صَالِحٌ، الَّذِي إِذْ رَفَضَهُ قَوْمٌ
انْكَسَرَتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ مِنْ جِهَةِ الإِيمَانِ أَيْضاً،»(رِّسَالَةُ
بُولُسَ الرَّسُولِ الأُولَى إِلَى تيموثاوس1: 19)، حيث يغرق نهائياً في
الشر.
Ø
الجانب السيكولوجي للضَّمِير:
دراسة علاقة الضَّمِير بالسمات الروحية للإِنْسَان هي ميدان علم النفس
(السيكولوجي). يحاول علماء النفس أن يُوضِّحوا موضوعين:
الأول: هل الضَّمِير هو صفة يُولَد
بها الإِنْسَان؟
أم أنه نتيجة التعلُّم ومواجهة خبرات الحياة في
البيئة التي ينمو فيها؟
والثاني: هل الضَّمِير هو نتيجة
للطريقة التي يعمل بها كلٌّ من الذهن والمشاعر والإرادة؟
أم أنه صفة مميَّزة مستقلة؟
وللإجابة على السؤال الأول، نقول إن فحص الضَّمِير يُقنعنا بأنه ليس نتيجة
للتعلُّم بل هو شَرِيعَة طبيعية من صنع الله في الإِنْسَان، ولكن له مصدر أعلى لا يمكن إدراكه
كاملاً. فمثلاً يرتقي الضَّمِير
عند الأطفال قبل أن يتلقَّنوا أي تعليم من الكبار أو أي تطوُّر لهم. إذا ألحَّت الشَرِيعَة
الطبيعية برغباتها على الضَّمِير،
فإنها تحاول أن تُقنع الإِنْسَان
أن يسلك بطريقة نفعية أو شهوانية، ولكن الضَّمِير غالباً ما يستميل الإِنْسَان أن يعمل بطريقة غير نفعية
وكذلك بضبط شهواته. ورغم أنه يبدو على فاعلي الشر أنهم يتمتعون بحياة هنيئة، وأن
الفضلاء يُقاسون، إلاَّ أن الضَّمِير يُنبِّهنا بأنه ينبغي أن توجد عدالة
عُليا. وأخيراً، لابد أن ينال الجميع الجزاء العادل. ووجود الضَّمِير هو لدى الكثيرين البرهان
الأكبر إقناعاً على وجود الله وخلود النفس.
وبالنسبة لعلاقة الضَّمِير بالخواص الروحية الأخرى في الإِنْسَان،
كالذهن والمشاعر والإرادة الحُرَّة، نُلاحِظ أن الضَّمِير يتكلَّم، ليس فقط عمَّا هو صالح، أو
يكشف ما هو شرير نظرياً، ولكنه أيضاً يحث الإِنْسَان على عمل الصالحات وتجنُّب الشر. والأعمال
الصالحة يتبعها شعورٌ بالاطمئنان والسرور، في حين أن الأعمال الشِّرِّيرِة ينتج
عنها الشعور بالخزي والخوف وانعدام السلام الروحي. وفي كل ذلك يكشف الضَّمِير
فينا عن درايتنا بالإرادة الحُرَّة والمسئولية.
والعقل وحده، طبعاً، لا يمكنه أن يُقرِّر ما هو صالحٌ أو شرير
أخلاقياً. فهو يؤسِّس حُكْمه على ملاحظة إن كان الشيء منطقياً أم غير منطقي،
حكيماً أم تافهاً، نافعاً أم غير نافع.
وصفة العقل المميَّزة هي أن يختار الفرص النافعة أكثر من
الأعمال الطيبة. ومع ذلك، فإن شيئاً في الإِنْسَان يُجبر عقله، ليس فقط على البحث عن
المنفعة كتقدير تصوُّري دقيق، بل أيضاً على أن يُقدِّر القيمة الأخلاقية لمقاصده.
وإذا كان ضَّمِيرنا
يؤثِّر على عقلنا، أَلاَ يتبع ذلك، حينئذٍ، أن يكون الضَّمِير مستقلاً عن العقل بل
فوقه؟ صوت الضَّمِير
يحاول أن يُوجِّه قرارات الإِنْسَان. والإِنْسَان ربما لا يُحقِّق دائماً متطلبات الضَّمِير،
إذ أنه حُرٌّ في الاختيار، ولكنه لا يمكنه أن يتجاهل صوت الضَّمِير، وإذا حدث أن تجاهل صوت الضَّمِير،
فلن يقدر أن يهرب من تبكيته الداخلي.
وأخيراً، فإن الضَّمِير لا يمكن أن يكون كنتيجة للمشاعر التي تجيش
في القلب. فالقلب يلتمس الأحاسيس المُسِرَّة ويتجنَّب غيرها. ولكن رفض المتطلبات
الأخلاقية كثيراً ما يجلب معه صراعاً روحياً قوياً يُمزِّق القلب البشري.
ولا يمكننا أن نهرب من النتيجة بالرغم من رغبتنا وجهدنا. وعلى ذلك، فرغم أن الضَّمِير
محصورٌ وساكنٌ بداخل الإِنْسَان،
إلاَّ أننا يجب أن نُسلِّم بأنه جوهر مميَّز مستقل وفائق يوجِّه عقل الإِنْسَان
وإرادته وقلبه بناموس إلهي.
والإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ يدعونا أن نحفظ نقاوتنا
الأخلاقية بقوله: «23فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ لأَنَّ مِنْهُ
مَخَارِجَ الْحَيَاةِ»(سِفْرُ
الأَمْثَالُ4:
23). ولكن أي رجاء يمكن أن يكون لخاطئ مع ضَّمِير غير نقي؟ هل يكون مُداناً إلى الأبد؟
كلاَّ. فالميزة العظيمة التي يُقدِّمها الإيمان المسيحي، هي أنه يفتح للإِنْسَان
طريقاً ويُعطي الوسيلة لتنقية الضَّمِير بالكامل. هذه الوسيلة هي التوبة والرغبة
الجدِّية لتغيير الحياة إلى الأفضل. إن الله يغفر لنا بسبب دم ذبيحة ابنه الوحيد
على الصليب: «14فَكَمْ
بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ
نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ
لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ!»(الرِّسَالَةُ إِلَى
الْعِبْرَانِيِّينَ9: 14).
والكنيسة بتعاليمها ونعمة الرُّوحُ
الْقُدُسُ الساكن فيها، تُمكِّن المؤمن من أن يتكمَّل أخلاقياً، وتجعل ضَّمِيره
أكثر حساسية وتمييزاً. ولذلك قال الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ: «8طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ
يُعَايِنُونَ اللَّهَ»(إِنْجِيلُ مَتَّى5: 8). ويدخل النور الإلهي في نفوسنا من
خلال ضَّمِير
نقي، وكأنه بللور صافٍ، ويخترق كل ركن فيها.
وطالما أن الضَّمِير موجود فينا، فإنه يُوجِّه أفكارنا،
ويسمو بمشاعرنا، ويُقوِّي إرادتنا، ويُعيننا في كل صلاح نأخذه على عاتقنا. وبواسطة
تلك الاستنارة المباركة يصبح العديد من المسيحيين آلات للعناية الإلهية. وبذلك
يتمتع المسيحي، ليس ببركات روحية فحسب، بل ويصير أيضاً وسيلةً لخلاص آخرين. وتاريخ
الكنيسة حافلٌ بأمثلة لا تُحصَى من حياة أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُينَ
والخُدَّام والمبشِّرين.
الضَّمِير النقي هو ينبوع لكل البركات الإلهية.
فذوو القلوب النقية يتمتعون بسلامٍ داخلي، وهم لطفاء وأسخياء في العطاء. وهكذا
يُعطيهم الله، في هذه الحياة المليئة بالمحن والعذاب، سَبْق تذوُّق للملكوت السماوي.
وكما يقول يوحنا ذهبي الفم: «لا الشهرة ولا الثروة ولا
السلطان ولا القدرة الجسدية ولا المائدة الشهية ولا الملابس الأنيقة ولا أيَّة
ميزة بشرية، يمكنها أن تجلب سعادة حقيقية، بل كل هذه تتأتَّى من صحة روحية وضَّمِير نقي».
ويقول يوحنا الدرجي: «لنتخذ من ضَّمِيرنا ناصحاً لنا بعد الله، ودستوراً في كل
شيء، وذلك لكي نعرف من أيَّة جهة تهبُّ الريح، فنفرد شِرَاعنا ونوجِّه سفينتنا
طبقاً لها».
0 التعليقات:
إرسال تعليق