الإعلان
الأول لله
في الطبيعة أو الخليقة
إعداد
د. القس سامي منير اسكندر
1) في الخليقة
Ø
إعلان الله بواسطة خليقته:
«1اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ (صورة الله) وَالْفَلَكُ
يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. 2يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ
يُذِيعُ كَلاَماً وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ،
مَزْمُور19: 1و2).
Ø اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ
بِمَجْدِ اللهِ:
«3إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ
عَمَلَ أَصَابِعِكَ الْقَمَرَ وَالنُّجُومَ الَّتِي كَوَّنْتَهَا»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور8:
3).
«6بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ
السَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور33: 6).
«16بِفَرَائِضِكَ أَتَلَذَّذُ. لاَ أَنْسَى كَلاَمَكَ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور115: 16).
«3سَبِّحِيهِ يَا أَيَّتُهَا الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ. سَبِّحِيهِ يَا جَمِيعَ كَوَاكِبِ النُّورِ. 4سَبِّحِيهِ يَا
سَمَاءَ السَّمَاوَاتِ وَيَا أَيَّتُهَا الْمِيَاهُ الَّتِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور148: 3و4).
«22الْجَالِسُ عَلَى كُرَةِ الأَرْضِ وَسُكَّانُهَا
كَالْجُنْدُبِ(كَالْجَرَادِ). الَّذِي يَنْشُرُ السَّمَاوَاتِ كَسَرَادِقَ
وَيَبْسُطُهَا كَخَيْمَةٍ لِلسَّكَنِ. 23الَّذِي
يَجْعَلُ الْعُظَمَاءَ لاَ شَيْئاً وَيُصَيِّرُ قُضَاةَ الأَرْضِ كَالْبَاطِلِ. 24لَمْ يُغْرَسُوا بَلْ لَمْ يُزْرَعُوا وَلَمْ
يَتَأَصَّلْ فِي الأَرْضِ سَاقُهُمْ. فَنَفَخَ أَيْضاً عَلَيْهِمْ فَجَفُّوا
وَالْعَاصِفُ كَالْعَصْفِ يَحْمِلُهُمْ. 25فَبِمَنْ
تُشَبِّهُونَنِي فَأُسَاوِيهِ؟ يَقُولُ الْقُدُّوسُ. 26ارْفَعُوا إِلَى الْعَلاَءِ
عُيُونَكُمْ وَانْظُرُوا مَنْ خَلَقَ هَذِهِ؟ مَنِ
الَّذِي يُخْرِجُ بِعَدَدٍ جُنْدَهَا يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ؟ لِكَثْرَةِ الْقُوَّةِ وَكَوْنِهِ شَدِيدَ الْقُدْرَةِ لاَ
يُفْقَدُ أَحَدٌ»(سِفْرُ إِشَعْيَاءَ40:
22-26).
«11هَكَذَا تَقُولُونَ لَهُمْ: «الآلِهَةُ
الَّتِي لَمْ تَصْنَعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ تَبِيدُ مِنَ الأَرْضِ وَمِنْ
تَحْتِ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ. 12صَانِعُ الأَرْضِ بِقُوَّتِهِ مُؤَسِّسُ الْمَسْكُونَةِ
بِحِكْمَتِهِ وَبِفَهْمِهِ بَسَطَ السَّمَاوَاتِ»(سِفْرُ إِرْمِيَا10:
11و12).
«19إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ
ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ 20لأَنَّ أُمُورُهُ
غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ تُرَى مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً
بِآلْمَصْنُوعَاتِ، َقُدْرَتَهُ
السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى
إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ»(رِّسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ1: 19و20).
Ø
وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ
إن
راكيا، الْفَلَكُ الممتدة، والفضاء، وليس فقط تحتوي على الأجرام السماوية،
ولكن أيضا في الهواء والضوء والمطر، وما إلى ذلك، وكلها تظهر قوة لا حصر له وحكمة
الخالق سبحانه وتعالى.
«1هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا اللهَ فِي قُدْسِهِ. سَبِّحُوهُ
فِي فَلَكِ قُوَّتِهِ. 2سَبِّحُوهُ
عَلَى قُوَّاتِهِ. سَبِّحُوهُ حَسَبَ كَثْرَةِ عَظَمَتِهِ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور150: 1و2).
«6وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ.
وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ». 7فَعَمِلَ
اللهُ الْجَلَدَ وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ
وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذَلِكَ. 8وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ
مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً ثَانِياً»(سِفْرُ التَّكْوِينِ1:
6-8).
«14وَقَالَ اللهُ: لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ
السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَتَكُونَ لآيَاتٍ
وَأَوْقَاتٍ وَأَيَّامٍ وَسِنِينٍ. 15وَتَكُونَ
أَنْوَاراً فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأَرْضِ. وَكَانَ كَذَلِكَ»(سِفْرُ التَّكْوِينِ1:
14و15).
«3وَالْفَاهِمُونَ
يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ وَالَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى الْبِرِّ
كَالْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ الدُّهُورِ»(سِفْرُ دَانِيآل12: 3).
Ø
يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَماً:
«7اِرْفَعْنَ أَيَّتُهَا الأَرْتَاجُ رُؤُوسَكُنَّ
وَارْتَفِعْنَ أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّاتُ فَيَدْخُلَ مَلِكُ
الْمَجْدِ. 8مَنْ هُوَ هَذَا مَلِكُ
الْمَجْدِ؟ الرَّبُّ الْقَدِيرُ الْجَبَّارُ الرَّبُّ الْجَبَّارُ فِي الْقِتَالِ!
9ارْفَعْنَ أَيَّتُهَا الأَرْتَاجُ
رُؤُوسَكُنَّ وَارْفَعْنَهَا أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّاتُ فَيَدْخُلَ
مَلِكُ الْمَجْدِ؟ 10مَنْ هُوَ هَذَا
مَلِكُ الْمَجْدِ! رَبُّ الْجُنُودِ هُوَ مَلِكُ الْمَجْدِ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ،
مَزْمُور24: 7-10).
«3الَّتِي
سَمِعْنَاهَا وَعَرَفْنَاهَا وَآبَاؤُنَا أَخْبَرُونَا. 4لاَ نُخْفِي عَنْ بَنِيهِمْ إِلَى الْجِيلِ
الآخِرِ مُخْبِرِينَ بِتَسَابِيحِ الرَّبِّ وَقُوَّتِهِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي
صَنَعَ. 5أَقَامَ شَهَادَةً فِي
يَعْقُوبَ وَوَضَعَ شَرِيعَةً فِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَوْصَى آبَاءَنَا أَنْ
يُعَرِّفُوا بِهَا أَبْنَاءَهُمْ 6لِكَيْ
يَعْلَمَ الْجِيلُ الآخِرُ. بَنُونَ يُولَدُونَ فَيَقُومُونَ وَيُخْبِرُونَ
أَبْنَاءَهُمْ »(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور78: 3-6).
«1هُوَذَا
بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ عَبِيدِ الرَّبِّ الْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ
الرَّبِّ بِاللَّيَالِي.2ارْفَعُوا
أَيْدِيَكُمْ نَحْوَ الْقُدْسِ وَبَارِكُوا الرَّبَّ.3يُبَارِكُكَ الرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ الصَّانِعُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور134: 1-3).
«12الأَحْدَاثُ
وَالْعَذَارَى أَيْضاً الشُّيُوخُ مَعَ الْفِتْيَانِ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ،
مَزْمُور148: 12).
«20فَأَخَذَتْ
مَرْيَمُ النَّبِيَّةُ أُخْتُ هَارُونَ الدُّفَّ بِيَدِهَا وَخَرَجَتْ جَمِيعُ
النِّسَاءِ وَرَاءَهَا بِدُفُوفٍ وَرَقْصٍ. 21وَأَجَابَتْهُمْ
مَرْيَمُ: «رَنِّمُوا لِلرَّبِّ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَظَّمَ! الْفَرَسَ وَرَاكِبَهُ
طَرَحَهُمَا فِي الْبَحْرِ!»(سِفْرُ اَلْخُرُوجُ15: 20و21).
«19الْحَيُّ
الْحَيُّ هُوَ يَحْمَدُكَ كَمَا أَنَا الْيَوْمَ. الأَبُ يُعَرِّفُ الْبَنِينَ
حَقَّكَ»(سِفْرُ إِشَعْيَاءَ38: 19).
Ø
وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً:
«16فَلَمَّا قَصَدْتُ مَعْرِفَةَ هَذَا إِذَا هُوَ تَعَبٌ
فِي عَيْنَيَّ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور74: 16).
«8الشَّمْسَ
لِحُكْمِ النَّهَارِ لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. 9الْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ
لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ،
مَزْمُور136: 8و9).
«17وَجَعَلَهَا
اللهُ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأَرْضِ 18وَلِتَحْكُمَ عَلَى النَّهَارِ وَاللَّيْلِ
وَلِتَفْصِلَ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَرَأَى اللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ»(سِفْرُ التَّكْوِينِ1: 17و18).
«22مُدَّةَ
كُلِّ أَيَّامِ الأَرْضِ زَرْعٌ وَحَصَادٌ وَبَرْدٌ وَحَرٌّ وَصَيْفٌ وَشِتَاءٌ
وَنَهَارٌ وَلَيْلٌ لاَ تَزَالُ»(سِفْرُ التَّكْوِينِ8: 22).
يقصد بالإعلان الإلهي الأفعال والطرق التي استخدمها الله كي يعرّف
بها عن ذاته أو مشيئته أو مقاصده.
الخليقة ذاتها - بما فيها الإنسان- هي الإعلان الأول والدائم لله عن
وجوده وقدرته وحكمته وعنايته ومحبته. وبكل تأكيد فلم تكن الخليقة، بعد خلق الإنسان
الوسيلة الوحيدة لكي يتعرف بها على خالقه. بل يحدّثنا الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ في بداية صفحاته عن شركة شخصية مباشرة مع الله. ولكن الإنسان بعد
ابتعاده الطوعي عنه بالخطيئة خسر إمكانية هذه المعرفة أو المعاينة المباشرة بسبب
اظلام ذهنه وقلبه. ولم يبقَ عند البشر سوى الخليقة المنظورة والمحسوسة التي تذكرهم
بالخالق غير المنظور وغير المحسوس «27لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ
لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ مَعَ
أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً. 28لأَنَّنَا بِهِ
نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ
أَيْضاً: لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ»(سِفْرُ أَعْمَالُ الرُّسُلِ17:
27-28)، ويعلمنا الإِنْجِيل: «17مَعَ
أَنَّهُ لَمْ
يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ، وَهُوَ
يَفْعَلُ خَيْراً يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً
وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَاماً وَسُرُوراً»(سِفْرُ أَعْمَالُ الرُّسُلِ14:
17).
الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ يؤكد أن هذه الحقيقة، إذ يظهر أن الخليقة تعلن عن الله أو تخبر عنه،
بحسب تعبير داوود النبي: «1اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ (صورة الله) وَالْفَلَكُ
يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. 2يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَماً وَلَيْلٌ
إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور19: 1و2). هذا الإعلان يتلقنه من يبحث بإمانة عن خالق هذه
الكائنات المذهلة التي تنتظم بإبداع في هذا الكون العجيب. فإنه، كما يعلم الإِنْجِيل:
«19إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ
ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ (في البشر) لأَنَّ اللهَ
أَظْهَرَهَا لَهُمْ 20لأَنَّ أُمُورُهُ
غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ تُرَى مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً
بِآلْمَصْنُوعَاتِ، َقُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ
بِلاَ عُذْرٍ»(رِّسَالَةُ
بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ1:
19-20).
الإنسان إذن يستطيع أن يؤمن بوجود الله غير المنظور من خلال رؤيته
لمصنوعاته المنظورة والتي تحدّث عن صانعها وخالق مادتها، لأنه لا سبب بدون مسبّب.
كذلك يستطيع أن يهتدي إلى نهائية قدرة الله من عظمة الطبيعة المخلوقة والغرابة
الهائلة لأبعادها كبراً أو صغراً. كما يمكنه أن يُستدل على سرمديته من قدم
المخلوقات والاستمرارية الدقيقة لنظام حركتها.
أما حكمته ومحبته فتظهران من خلال عنايته الفائقة بجميع مخلوقاته
الحية من أحقرها إلى أعظمها: «25لِذَلِكَ أَقُولُ
لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ،
وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ
الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ 26اُنْظُرُوا
إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ
إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ
بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ 27وَمَنْ
مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً
وَاحِدَةً؟ 28وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ
بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ
وَلاَ تَغْزِلُ. 29وَلَكِنْ أَقُولُ
لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ
مِنْهَا. 30فَإِنْ كَانَ عُشْبُ
الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ
اللَّهُ هَكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا
قَلِيلِي الإِيمَانِ؟»(إِنْجِيلُ
مَتَّى6: 26-30). وبالإجماع كل الخليقة بنظامها
وانسجامها تظهر ككتاب مفتوح وتصرخ مخبرة عن سيدها وصانعها.
ما ذُكر أعلاه لا يعني أنّ تفتيش الإنسان عن الله من خلال خليقته. هو
عملية عقلانية منطقية بحته. وبالتالي فلا يمكن أن يستفيد من هذه العملية إلا
الأذكياء والفهماء. في الواقع، ظلّت معرفة الله وستظل، من خلال هذه الطريقة أو
غيرها، أقرب تناولاً لا للحكماء في أعين أنفسهم بل لمتواضعي الروح وأنقياء القلوب:
«25فِي
ذَلِكَ الْوَقْتِ أجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ
وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ»(إِنْجِيلُ مَتَّى11: 25). «19وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ
قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ
النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا3: 19).
لأن الله الذي زرع في كيان الإنسان منذ الأساس بذور كلمته الإلهية والتوق إلى
معرفته، هو الذي يعلن بصورة خفية، وحتى من خلال الخليقة الطبيعية: «16وَلَكِنْ طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا
تُبْصِرُ، وَلِآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ»(إِنْجِيلُ مَتَّى13: 16)، أي
للقلوب النقية غير الموصدة.
إظلام صُورَةِ اللهِ في الإنسان بعد السقوط، هو الذي أدّى أن تصبح
ليس فقط الرؤية الإلهية غير ممكنة، بل وأيضاً إعلان الله من خلال طبيعته غير فعّال
بشكل كاف، وكذلك أن يتشوه استعماله من قبل الوثنيين، الذين عبدوا الخليقة دون
الخالق، كما سنرى، من أجل هذا السبب، مع اعتراف الآباء بأهمية معرفة الله من خلال
الطبيعة، كوسيلة بناءة تساعد على الإيمان بالله، إلا أنهم يعتبرونها نسبية محدودة،
ويحذّرون من أيّة محاولة للتعرف على الله انطلاقاً من تصوّر وجود مجال للمقارنة أو
التشابه بين المخلوق والخالق. لأن نوعية طبيعة الله غير المخلوقة تختلف جذرياً عن
طبيعة المخلوقات، إضافة إلى أن الله غير ممكن قطعاً أن يصبح هو نفسه موضوعاً
قابلاً للمعرفة والبحث من قبل أي مخلوق، وذلك لتعاليه المطلق على كل الموجودات.
Ø
موقف الأمم القديمة من هذا الإعلان:
لا ينكر أحد التأثير القوي للطبيعة على الإنسان من جهة اعتقاداته
الدينية. لكنه يصعب كثيراً رصد هذا التأثير بدقة على الإنسان البدائي، ومنه تصور
موقفه تجاه بعض الظواهر الفائقة الغرابة بالنسبة إليه، كالسماء المرصّعة بالأضواء
ليلاً، وما يبدو من تحركات الشمس والقمر والكواكب والسحب، أو مفاجآت الأمطار
والبروق والرعود والأعاصير، أو تنوع الحيوانات والنباتات، أو حتمية الموت، أو غموض
الأحلام إلخ...الأصعب من هذا تصور موقفه الحقيقي وهو يلتمس في ظلمة جهله باحثاً عن
أجوبة لمسائل كثيرة تطرح نفسها عليه وهو لا يجد لها تعليلاً، ومنها سبب ومعنى وجود
كل هذه المخلوقات التي أمامه ومنها وجوده هو نفسه، وكيف انتقل من هذه التساؤلات
إلى إعطاء أجوبة عبر الأساطير والاعتقادات الدينية التي صار يتناقلها.
أهمية إعلان الله عبر خليقته، رغم تشوّه استقباله بعد سقوط الإنسان،
تؤكدها يوماً بعد يوم الحقيقة التي لاحظها المفكر الروماني بلوتارك منذ حوالي ألفي
سنة: "قد نجد مدناً دون أسوار، ودون ملوك، ودون أبنية، ودون نقود، ودون مسارح
أو ملاعب. إلا أننا لن نجد مدينة واحدة دون معبد ودون إله. أو لا تلجأ إلى الصلاة
والتعويذات والذبائح من أجل الخير...مقابل هذا الإجماع الغريب الذي شمل كل شعوب
الأرض دون استثناء في أي زمان أو مكان وجدوا، على الإيمان بألوهة ما وبحياة ما بعد
الموت نلاحظ الدور الخاص للإنسان الساقط في تكوين آرائه الدينية وتأثير البيئة
عليه. فمثلاً الديانة المصرية القديمة نجد أن الشمس وهي أبرز الظواهر الطبيعية في
مصر تسند قيادتها إلى رع كبير آلهة المصريين، بينما يتولى زفس كبير الآلهة عند
اليونان قيادة الرعد والبرق والمطر، لأنها الأشد تأثيراً في جو أوربا المليء
بالسحب والأمطار...
الإِنْجِيل يولي أهمية كبرى لدور الخلائق المنظور، لكنه يتعجّب من
حماقة الذين ألّهوها ولم يقدروا أن يعرفوا خالقها من خلالها، إلى جانب ما يسميه الإِنْجِيل
حماقة فالديانات القديمة أيضاً فساد أخلاق وظلمة نفوس، تفضها الأساطير المنسوجة
حول آلهتها من طمع وشهوانية وشذوذ وأنانية وحقد ومؤامرات إلخ...
الإِنْجِيل يربط بوضوح بين حماقة الأفكار وظلمة القلب التي أدّت إلى
العبادات الوثنية من جهة، وبين الشهوات والنجاسة التي نتجت عن هذه العبادات من جهة
أخرى. «21لأَنَّهُمْ
لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ بَلْ حَمِقُوا
فِي أَفْكَارِهِمْ وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. 22وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ
حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ 23وَأَبْدَلُوا
مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى
وَالطُّيُورِ وَالدَّوَابِّ وَالزَّحَّافَاتِ. 24لِذَلِكَ
أَسْلَمَهُمُ اللهُ أَيْضاً فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى النَّجَاسَةِ
لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ»(رِّسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ1: 21-24).
على هذا النحو بدا، وكأن إعلان الله من خلال خليقته، لم يكن مجدياً
بالنسبة للقدماء عامة. مع ذلك فالأفكار الإيجابية والمبادئ الأخلاقية الجديرة
بالاحترام عند عدد من المفكرين والمصلحين في بعض الأمم الوثنية، مع انتظار عام
لمخلص سماوي، إضافة إلى التأملات الفلسفية البناءة المتعلقة بالألوهة، ومنها على
سبيل المثال البراهين التي أعطاها بعض الفلاسفة مثل سقراط وأفلاطون، أرسطو على
وجود الإله الواحد وصفاته. كل هذا يدل على أن إخبار الطبيعة عن مجد خالقها وعن
صفاته لم يبقَ كلياً بلا ثمر بل ساعد في التهيئة التي بثّها الله بطرقه الخفية إلى
جانب إعلانه عبر أنبياء في نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ، لكي
يسهّل على الأمم تقبل إعلان الله بالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ حين يأتي ملء
الزمان.
0 التعليقات:
إرسال تعليق