• اخر الاخبار

    معرفة الله إعداد د. القس سامي منير اسكندر






    معرفة الله

    إعداد


    د. القس سامي منير اسكندر


    الله هو خير الإنسان الأعظم: هذه شهادة الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ بأكمله. إذ يبدأ الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ الحديث عن خلق الله للإنسان على صورته كشبهه، ليعرف الإنسان خالقه بكيفية صحيحة، وليحبه من كل قلبه وليحيا معه في سعادة أبدية. وخاتمة الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ وصف لأورشليم الجديدة التي يرى سكانها الله «4وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ، وَاسْمُهُ عَلَى جِبَاهِهِمْ»(سِفْرُ رُؤْيَا يُوحَنَّا اللاَّهُوتِيِّ22: 4).

    وبين هاتين الحقيقتين نجد إعلان الله عن ذاته بكل ما يشتمل عليه من أبعاد. ومضمون هذا الإعلان هو عهد النعمة الواحد العظيم الشامل: «23بَلْ إِنَّمَا أَوْصَيْتُهُمْ بِهذَا الأَمْرِ قَائِلاً: اسْمَعُوا صَوْتِي فَأَكُونَ لَكُمْ إِلهًا، وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي شَعْبًا، وَسِيرُوا فِي كُلِّ الطَّرِيقِ الَّذِي أُوصِيكُمْ بِهِ لِيُحْسَنَ إِلَيْكُمْ»(سِفْرُ إِرْمِيَا7: 23).
    ويبلغ هذا الإعلان نقطته المركزية وذروته في عمانوئيل، الله معنا « 14وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ»(سِفْرُ إِشَعْيَاء7: 14)،  «23هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ الَّذِي تَفْسِيرُهُ اَللهُ مَعَنَا»(إِنْجِيلُ مَتَّى1: 23)، فالوعد وتحقيقه يسيران جنباً إلى جنب، وكلمة الله هي البداية، الأمل والبذرة، تبلغ تحقيقها الكامل عندما تترجَم إلى أحداث على مسرح التاريخ. وكما أوجد الله الأشياء في البدء بكلمة قدرته «3الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي»(الرِّسَالَةُ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ1: 3)، فإنه سيتوج الزمن إذ يخلق بكلمته السماء الجديدة والأرض الجديدة حيث يسكن تعالى مع شعبه (عروسته، الكنيسة) للأبد.

    لهذا يقول الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ عن الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ: «14وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا1: 14).
    فهو الكلمة الذي كان في البدء عند الله والذي كان هو الله، ولذلك فهو حياة الناس ونورهم «41هذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَقَالَ لَهُ: «قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: الْمَسِيحُ»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا1: 41).

    ولأن الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ يشارك الله الآب حياته، ويعبّر الآب عن فكره عن طريق الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، فالكيان الإلهي كله معلن في الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. فالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لا يظهر لنا الآب ويكشف اسمه فحسب، بل أنه في ذاته يرينا الآب ويعطينا إياه.
    فالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ هو الله معبَّراً عنه والله مقدَّماً لنا. ولهذا فهو  «»مملوء نعمة وحقاً «»«14وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا1: 14). وكلمة الوعد «فَأَكُونَ لَكُمْ إِلهًا» تتضمن بين طياتها منذ لحظة النطق بها تحقيق ذلك الوعد: «أنا إِلهًكم». فالله يعطي ذاته لشعبه، ليعطي شعبه أنفسهم له.
    يعلن الله في الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ باستمرار، وبكيفية متكررة، شهادته عن نفسه بالقول: «أنا إلهكم». ومنذ الوعد الأول في «15وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ»(سِفْرُ التَّكْوِينِ3: 15)، تتكرر هذه الشهادة الغنية التي تشمل جميع البركات وجوانب الخلاص كلها، سواء كان ذلك في ما يتعلق بحياة رؤساء الآباء أو بتاريخ شعب إسرائيل، أو بكنيسة العهد الجديد. وكصدىً لذلك، فإن الكنيسة على مر العصور تعبّر عن إيمانها بأساليب متنوعة، معترفة بالجميل ومسبّحة بحمده: أنت إلهنا ونحن شعبك وغنم مرعاك «3اعْلَمُوا أَنَّ الرَّبَّ هُوَ اللهُ. هُوَ صَنَعَنَا، وَلَهُ نَحْنُ شَعْبُهُ وَغَنَمُ مَرْعَاهُ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور100: 3).

    وإذ تعلن الكنيسة إيمانها لا تقدم عقيدة علمية، ولا صياغة شكلية تتحد في ترديدها، ولكنها تعبّر عن إقرار واعتراف بحقيقة تحسّ بها بعمق، واقتناع بحقيقة نتجت عن اختبارات الحياة. فالأنبياء والرسل عامة والقديسين الذين نلتقيهم على صفحات الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ بعهديه القديم والجديد، وفيما بعد ذلك في كنيسة الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، لم يجلسوا ليقدموا نظريات فلسفية عن الله في صورة أفكار مجردة، بل أقروا بمكانة الله في حياتهم وبأنهم مدينون له في كل ظروف الحياة. فلم يكن الله بالنسبة إليهم فكرة جامدة يتناولونها بتحليل عقلاني. ولكنه كان في نظرهم قوة شخصية حية، حقيقة يتلامسون معها أكثر جداً من تلامسهم مع العالم المادي الذي يحيط بهم. فهو بالنسبة إليهم الواحد الوحيد السرمدي، الذي يستحق وحده السجود والعبادة. لذا تعاملوا معه وعاشوا في حضرته وسلكوا وكأنهم دائماً في محضره، كما قاموا بخدمته في دياره، وتعبدوا له في مقدسه.

    إن ما يميز اختبار هؤلاء من أصالة وعمق يظهر في اللغة التي عبروا بها عن مكانة الله في حياتهم. فلم يجدوا أنفسهم في حاجة لأن يبذلوا الجهد بحثاً عن المفردات، إذ تدفقت الكلمات على شفاههم وزودهم عالم البشر والطبيعة بصور التعبير المختلفة. وكان الله بالنسبة إليهم هو الملك والسيد، الرب الجبار، القائد والراعي والفادي والمعين والطبيب والأب. وهو مصدر بركتهم وهنائهم وحقهم وبرهم وحياتهم، مصدر رحمتهم وقوتهم وبأسهم وسلامهم وراحتهم. إنه شمسهم وترسهم، وهو الذي يقيهم، كما أنه نورهم ونارهم، وينبوعهم المروي والبئر الذي يستقون منها، صخرتهم وترسهم، حصنهم وبرجهم، مكافأتهم وسترهم، مدينتهم وهيكلهم. فكل ما يمكن للعالم أن يقدمه من خير إنما هو ظل باهت للخلاص الكامل الذي يقدمه الله لشعبه. ولذلك يخاطب داود الرب قائلاً:  «2قُلْتُ لِلرَّبِّ: «أَنْتَ سَيِّدِي. خَيْرِي لاَ شَيْءَ غَيْرُكَ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور16: 2). ويتغنى آساف قائلاً:  «25مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئًا فِي الأَرْضِ. 26قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي. صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي اللهُ إِلَى الدَّهْرِ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور73:  25و26)، حتى السماء في نظر المؤمن، بكل بركاتها ومجدها تضحي، من دون الله، باطلة عقيمة تافهة. وإذ يحيا في شركة مع الله، لا ينشغل بما هو أرضي، لأن محبة الله تسمو على كل خير آخر.

    هذا هو اختبار أولاد الله. إنه اختبار أحسوا به لأن الله قدّم ذاته ليسعدوا به في شخص ابن محبته. وبهذا المعنى قال الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ أن الحياة الأبدية، هو خلاص الله في كماله، يتركز بالنسبة للإنسان في: «3وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا17: 3).

    لقد نطق الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بهذه الكلمات في لحظة مباركة. لقد كان على وشك أن يعبر وادي قدرون ليدخل بستان جثسيماني، ويواجه آخر صراعاته هناك. إلا أنه، قبل أن يصل إلى ذلك المكان، يهيئ نفسه –بوصفه كاهننا الأعلى- لآلامه وموته. ويصلي للآب ليمجده الآب في آلامه، وبعد ذلك ليمجد الابن الآب بأن يوزع جميع تلك البركات التي كان يوشك أن يحققها بطاعته حتى الموت. وإذ يصلي الابن هكذا، فهو لا يرغب في شيء سوى إرادة الآب ومشيئته الصالحة. لقد أعطى الله الابن سلطاناً على كل ذي جسد، ليعطي هو حياة أبدية لكل من أعطاه إياه. وقوام هذه الحياة الأبدية: «3وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا17: 3).

    واضح أن المعرفة التي يتكلم عنها هنا لها صفاتها المميزة. فهي تختلف عن أية معرفة أخرى يمكن للمرء أن يحصل عليها–لا من جهة درجة المعرفة. بل من جهة جوهرها.
    فهذه المعرفة مختلفة أولاً في مصدرها، إذ أننا مدينون بها تماماً للرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. لذا يمكننا أن نقول من زاوية معينة بأننا نحصل على معرفتنا في المجالات الأخرى عن طريق إدراكنا وتقديرنا للأمور، بمجهودنا ودراستنا. أما معرفة هذا الإله الواحد الحقيقي، فينبغي لنا، وكأننا أطفال، أن نسمح للرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بأن يعطينا إياها. ولا يمكن أن نجدها بعيداً عنه، لا في معاهد العلم، ولا بين الفلاسفة البارزين.

    فالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ وحده هو الذي عرف الآب. كان في البدء مع الله، في حضنه، ورآه وجهاً لوجه. وهو نفسه الله: بهاء مجده ورسم جوهره، وهو ابن الآب الوحيد المحبوب، الذي كان سروره الكامل فيه. «17وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»(إِنْجِيلُ مَتَّى3: 17)، «14وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا1: 14)،  «3الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي»(الرِّسَالَةُ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ1: 3). فليس شيء في كيان الآب خفي عن الابن، ما دام الابن يشترك في الطبيعة نفسها والصفات عينها والمعرفة ذاتها. ولا يوجد من يعرف الآب معرفة كاملة سوى الابن «27كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ»(إِنْجِيلُ مَتَّى11: 27).

    وقد جاء هذا الابن إلينا، وأعلن لنا الآب. فهو أعلن الآب للبشر. لهذا تجسد، وظهر في الأرض: لنعرف ذاك الذي هو الحق «20وَنَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ اللهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ الْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي الْحَقِّ فِي ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. هذَا هُوَ الإِلهُ الْحَقُّ وَالْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ»(رِّسَالَةُ يُوحَنَّا الرَّسُولِ الأُولَى5: 20).
    إلا أن الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ أعطانا أن نعرف الآب. لم يكن الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فيلسوفاً أو عالماً، أو فناناً، بل كان عمله هو أن يعلن الآب لنا. وهذا فعله بالتمام في حياته كلها. ولقد أعلن الله بأقواله وأفعاله، بحياته وموته، وبشخصه وبكل ما كان هو إياه وبكل ما فعله. فلم يقل أو يفعل شيئاً سوى ما رأى أن الآب يفعله، كما كان طعامه أن يصنع مشيئة الآب. وكل من رآه فقد رأى الآب أيضاً «34قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا4: 34)، «26إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَق. وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ، فَهذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ. 27وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ الآبِ. 28فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ نَفْسِي، بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا8: 26و28)، «50وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ، فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هكَذَا أَتَكَلَّمُ»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا12: 50)، «9قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: أَرِنَا الآبَ؟»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا14: 9).
    ويمكننا أن نركن إليه تماماً في إعلانه لله، لأنه هو يسوع المسيح المرسل من لدن الآب. ولقد أعطاه الله نفسه اسم «يَسُوعَ»  «21فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ»(إِنْجِيلُ مَتَّى1: 21). واسمه «يَسُوعَ» لأنه مسيح الله، وقد اختاره الله نفسه وأهله لكل وظائفه «1هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ»(سِفْرُ إِشَعْيَاء42: 1) ، «16فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ»(إِنْجِيلُ مَتَّى3: 16). وهو الواحد المرسل من الله، لأنه لم يأت باسم نفسه كالكثيرين من الأنبياء والكهنة المزيفين. الذين يأتون باسم أنفسهم، ويقيمون أنفسهم، وينسبون الفضل لأنفسهم. إنه ليس كذلك، «16لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا3: 16).
    لذلك فالذين يقبلونه ويؤمنون به، أعطاهم جميعاً الحق ليكونوا أولاد الله «12وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا1: 12). فهم مولودون من الله، وشركاء الطبيعة الإلهية، ويعرفون الله في وجه الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابنه. ذلك أنه «27كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ»(إِنْجِيلُ مَتَّى11: 27).

    ومن الناحية الثانية تختلف معرفة الله عن سائر أنواع المعرفة من حيث موضوعها. فالمعارف الأخرى كلها يمكن – وبصفة خاصة في عصرنا الحاضر – أن يكون مجالها واسعاً. إلا أنها تدور حول المخلوق وتقتصر على ما هو وقتي، ولا يمكن أن تعرف ما هو أبدي. طبيعي أن قدرة الله الأزلية ولاهوته معلنان في الطبيعة أيضاً. إلا أن معرفة الله التي نستمدها من هذا المصدر معرفة هزيلة غامضة يشوبها الخطأ، بالإضافة إلى أن البشر لا يقدرونها كثيراً. ومعرفة الله عن طريق الطبيعة لم تدفع البشر لأن يمجدوه أو يحمدوه كإله، بل حمقوا في تصوراتهم، وأبدلوا بمجد الله الذي لا يفنى، صوراً مشابهة للمخلوقات. إذاً الخليقة تعلن الله وتخفيه على حد سواء «20لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. 21لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. 22وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ، 23وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ»(رِّسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ1: 20و23).
    إلا أنه في صلاة رئيس كهنتنا، تلك التي سبقت الإشارة إليها، يبرز أمامنا شخص ينصرف عن مثل هذه المعرفة، ويتحدث بجرأة عن معرفة الله. أيمكن أن يكون الله موضوع معرفة البشر؟! من يستطيع أن يسبر أغوار ذلك؟ كيف يمكن للإنسان أن يعرف الله الذي لا تحده حدود ولا يدركه أحد، لأننا لا نستطيع أن نقيسه بحدود الزمن أو البد، ذاك الذي في حضرته تغطى الملائكة وجوهها بأجنحتها والساكن في نور لا يدنو منه أحد، والذي لم يره إنسان قط ولا يمكن لأحد أن يراه؟ كيف يمكن للإنسان الذي في أنفه نسمة، والذي لا يحسب شيئاً، الله، يعرف مثل هذا الإله «22كُفُّوا عَنِ الإِنْسَانِ الَّذِي فِي أَنْفِهِ نَسَمَةٌ، لأَنَّهُ مَاذَا يُحْسَبُ؟»(سِفْرُ إِشَعْيَاء2: 22)؟ كيف يمكن لإنسان معرفته – مهما سمت – معرفة جزئية أن يعرف الله؟ إن معرفة الإنسان إنما هي معرفة عن الأشياء، وليست معرفة للأشياء في ذاتها. فماذا يعرف عن الأشياء في مصدرها وجوهرها وهدفها؟ ألا يلفه المجهول من كل جانب؟ أو لا يقف دائماً على حافة ذلك المجهول؟ فهل يمكن القول إن مثل هذا الإنسان الفقير، الضعيف، المعرض للخطأ، والذي يحيط به الجهل من كل جانب، يستطيع أن يعرف الله السامي القدوس الذي له وحده الحكمة والقادر على كل شيء؟

    إن هذه المعرفة تفوق إمكانياتنا، إلا أن الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الذي رأى الله وأعلنه لنا يتحدث عنها. ويمكننا أن نعتمد عليه لأن شهادته حق وتستحق أن نقبلها تماماً. فإن كنت تريد، أيها الإنسان، أن تعرف من هو الله، فلا تسأل الحكماء والكُتاب ومجادلي هذا العصر، بل انظر إلى الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ واضع لكلمته! «6وَأَمَّا الْبِرُّ الَّذِي بِالإِيمَانِ فَيَقُولُ هكَذَا: «لاَ تَقُلْ فِي قَلْبِكَ: مَنْ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ؟» أَيْ لِيُحْدِرَ الْمَسِيحَ، «7أَوْ: مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ؟» أَيْ لِيُصْعِدَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ 8لكِنْ مَاذَا يَقُولُ؟ «اَلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ» أَيْ كَلِمَةُ الإِيمَانِ الَّتِي نَكْرِزُ بِهَا»(رِّسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ10: 6-8).

    فهو نفسه الكلمة، إعلان الآب الكامل. وكما الابن فكذلك الآب. بار وقدوس ومملوء نعمة وحقاً. وفي صليب الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ أصبح كل مضمون العهد القديم واضحاً معلناً: «8الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ. 9لاَ يُحَاكِمُ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى الدَّهْرِ. 10لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا، وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثامِنَا. 11لأَنَّهُ مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ. 12كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا. 13كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور103: 8–13). وإذ نرى مجد الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ في مرآة كلمته نهتف فرحين: «19نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً»(رِّسَالَةُ يُوحَنَّا الرَّسُولِ الأُولَى4: 19).
    هذا المصدر وهذا المضمون يحددان الجوهر الخاص الذي تتميز به معرفة الله.
    وفي الآية التي أشرنا إليها من صلاة رئيس كهنتنا، يتحدث الرب يسوع عن معرفة ليست هي مجرد معلومات ولكنها معرفة حقيقية. وهنالك فارق كبير بين هذين النوعين من المعرفة. فإذ نحصل على بعض المعلومات من الكتب عن نبات، أو حيوان، أو شخص، أو بلد من البلاد، أو شعب من الشعوب، فهذا لا يعني معرفة مباشرة شخصية عن هذا المر أو ذاك. فمثل هذه المعلومات تتأسس على وصف شخص آخر للموضوع. ومن هذه الزاوية، فالمعلومات أمر عقلاني فحسب. إلا أن المعرفة الحقيقة تتضمن عنصراً من الاهتمام الشخصي والمشاركة، ونشاط العاطفة والإرادة.

    ولا شك أن الكلمة المقدسة تقدم وصفاً لمعرفة الله التي أعطاها الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. ولذلك فمن الممكن أن نحصل على معلومات عن الله تختلف جوهرياً عن المعرفة الحقيقية التي قصدها الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وعليه، فمن الممكن أن يعرف المرء إرادة الرب، دون استعداد قلبي لتنفيذ هذه الإرادة «47وَأَمَّا ذلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيرًا. 48وَلكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ»(إِنْجِيلُ لُوقَا12: 47و48). يمكن للإنسان يقول:  «يا رب، يا رب» دون أن يدخل ملكوت السماوات: «21لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَارَبُّ، يَارَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ»(إِنْجِيلُ مَتَّى7: 21). وللشياطين مثل هذا الإيمان الذي لا يدفع إلى المحبة بل إلى الخوف والفزع «19أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ. حَسَنًا تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ!»(رِّسَالَةُ يَعْقُوبُ الرَّسُولِ2: 19)، وهنالك من يسمعون الكلمة ولكنهم لا يرغبون في العمل بالكلمة فينالون عقاباً مضاعفاً «22وَلكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ»(رِّسَالَةُ يَعْقُوبُ الرَّسُولِ1: 22).
    وإذ يتحدث الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ في هذا المجال عن معرفة الله، يتحدث عن معرفة تماثل من حيث النوع المعرفة التي عنده هو. فلم يكن الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لاهوتياً محترفاً، كما لم يكن أستاذاً متخصصاً في العلوم اللاهوتية. ولكنه عرف الله عن طريق الرؤية الشخصية والبصيرة التي له. لقد رأى الله في كل مكان: في الطبيعة، وفي كلمته وفي خدمته. وقد أحبه أكثر من كل شيء أو شخص، وأطاعه في جميع الأشياء، حتى في الموت على الصليب. لقد كانت معرفته لحق جزءاً لا يتجزأ من تطبيق الحق عملياً. فالمعرفة والمحبة تسيران جنباً إلى جنب.

    ومعرفة المرء لله ليست في معرفة الكثير عنه، بل في أن نراه في شخص الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الله، نتقابل معه في طريق الحياة، وفي اختبارنا الشخصي، أن نتعرف بفضائله وبره وقداسته ورأفته ونعمته.
    ولأجل هذا فإن هذه المعرفة، في تميزها عن أنواع المعارف الأخرى، نسميها معرفة الإيمان. فهي ليست حصيلة دراسة علمية أو تأملات فلسفية، بل هي إيمان بسيط كإيمان الأطفال. وليس هذا الإيمان معرفة يقينية فحسب ولكنه ثقة وطيدة بأن الله لا يعطى الآخرين فقط، بل يعطيني أنا أيضاً غفران الخطايا والبر الأبدي والخلاص، وكل هذا مجاناً وبمجرد النعمة، وعلى أساس استحقاقات الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، ولا شيء غير ذلك. «3وَقَالَ: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ»(إِنْجِيلُ مَتَّى18: 3). ولا يرى وجه الله سوى الأنقياء القلب«8طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ»(إِنْجِيلُ مَتَّى5: 8)، كما لا يدخل الملكوت سوى المولودين من الماء والروح «5أَجَابَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا3: 5). والذين يعرفون اسمه يضعون ثقتهم فيه «10وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ الْعَارِفُونَ اسْمَكَ. لأَنَّكَ لَمْ تَتْرُكْ طَالِبِيكَ يَا رَبُّ»(سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ، مَزْمُور9: 10). ونحن نعرف الله بقدر ما نحبه.
    متى تفهمنا معرفة الله بهذه الكيفية، لن يدهشنا أن نلاحظ أن عمل هذه المعرفة ومفعولها لا بد أن يفضيا إلى الحياة الأبدية، وليس أقل. والواقع أنه يبدو أن العلاقة بين المعرفة والحياة ضئيلة. ألا يقول الجامعة حقاً: «18لأَنَّ فِي كَثْرَةِ الْحِكْمَةِ كَثْرَةُ الْغَمِّ وَالَّذِي يَزِيدُ عِلْماً يَزِيدُ حُزْناً»(سِفْرُ الْجَامِعَةِ1: 18)، «12وَبَقِيَ فَمِنْ هَذَا يَا ابْنِي تَحَذَّرْ: لِعَمَلِ كُتُبٍ كَثِيرَةٍ لاَ نِهَايَةَ وَالدَّرْسُ الْكَثِيرُ تَعَبٌ لِلْجَسَدِ»(سِفْرُ الْجَامِعَةِ12: 12)؟

    والمعرفة قوة. ويمكننا أن نتفهم ذلك ولو لدجة محدودة. وكل معرفة فيها انتصار للروح على المادة، وإخضاع للأرض لسيادة الإنسان. إلا أن هذه المعرفة يجب أن تكون حياة. ومن يستطيع أن يتفهم ذلك؟ إلا أنه حتى في النظام الطبيعي، فإن عمق الحياة وغناها يتزايدان بالمعرفة. فكلما كان الوعي والإلمام بالأمور شاملين، كانت الحياة قوية من جميع النواحي. فالجماد لا يعرف، ولذلك يحيا. وإذ ينمو الإدراك في الحيوانات، فإن حياتها تزداد غنى من حيث المضمون واتسع المجال والأفق. وان أغنى أنواع الحياة بين البشر هي حياة ذاك الذي يعرف أكثر من الجميع. فما هي في الواقع حياة ذاك الذي يعرف أكثر من الجميع. فما هي في الواقع حياة مختل العقل، والساذج، والمتخلف؟ إنها حياة فقيرة محدودة بالنسبة إلى حياة المفكر والشاعر. إلا أننا مهما لاحظنا من اختلاف هنا، فهو اختلاف في الدرجة. فهذه المعرفة لا تجري تغييراً في الحياة. ومثل هذه الحياة، سواء أكانت حياة عالم ممتاز أو حياة عامل كادح بسيط، لابد أن تنتهي بالموت، لأنها تعيش على موارد هذا العالم المحدودة.

    إلا أن هذه المعرفة التي يتحدث الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ عنها ليست معرفة المخلوق، ولكنها معرفة الله الحقيقي الواحد. فإن كانت معرفة الله للحياة؟ فالله ليس إله الموت والأموات بل إله الحياة والأحياء. وكل من خلقهم من جديد على صورته وردهم إلى شركته، وقد رفعهم بذلك فوق مستوى الموت وقابلية الموت. فقد قال الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ: «25قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، 26وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟»(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا11: 25و26)، إذاً معرفة الله في الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ تأتي بالحياة الأبدية معها، بفرح لا ينطق به، وسعادة سماوية. وليست هذه مجرد تأثيرات معرفة الله، لأن معرفة الله نفسها بكيفية مباشرة حياة جديدة أبدية ومباركة.

    وتمشياً مع تعليم الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ في هذا المجال، حددت الكنيسة المسيحية صفة تلك المعرفة أو ذلك العلم الذي أطلق عيه من زمن بعيد «علم اللاهوت». وعلم اللاهوت هو ذلك العلم الذي يستمد معرفة الله من إعلانه عن ذاته، وهو الذي يدرس هذه المعرفة ويفكر فيها بإرشاد روح الله، ثم يحاول بعد ذلك أن يصفها لتخدم مجد الله. واللاهوتي الحقيقي هو الذي يحدث من عند الله، وعن طريق الله، وعن الله، ويفعل هذا المجد اسم الله دائماً. والفارق بين المتعلم والشخص البسيط هو اختلاف في الدرجة وحسب – فلكليهما «5رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، 6إِلَهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ. 7وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ النِّعْمَةُ حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ الْمَسِيحِ»(رِّسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ4: 5-7).

    بمثل هذه الروح ابتدأ كلفن أصول إيمان جنيف بالسؤال: «ما هي غاية الإنسان العظمى؟» وجاءت الإجابة واضحة مدوية: «أن يعرف الله الذي خلقه ». وعلى النهج نفسه يبدأ ملخص أصول الإيمان الوستمنستري تعليمه بالسؤال: «ما هي غاية الإنسان الأسمى والرئيسة؟» ويقدم إجابة مختصرة غنية: «أن يمجد الله وأن يتمتع به إلى الأبد».

    • تعليقات بلوجر
    • تعليقات الفيس بوك

    0 التعليقات:

    Item Reviewed: معرفة الله إعداد د. القس سامي منير اسكندر Rating: 5 Reviewed By: د. القس سامي منير اسكندر
    Scroll to Top