خلفية الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ
إعداد
د. القس
سامي منير اسكندر
الفصل
الثاني
العوامل
المؤثرة في فهم
الإِعْلاَنِ
الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ (الجزء الثاني)
ثالثًا: إدراك كيفية تكوّن الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ
الْمَكْتُوبُ
Ø الإِنْجِيلُ
أما مسألة تكوّن الإِنْجِيلُ فهي أقل تعقيدًا، فلم
تستغرق كتابته ومراجعته أكثر من نصف قرن (من سنة 50 حتى 100)، والعدد الأكبر من
كُتّابه معروفون.
A.
النظرية
التقليدية
النظرية التقليدية هي بسيطة للغاية، فكاتب إِنْجِيلُ مَتَّى هو مَتَّى الرَّسُولِ، كاتب إِنْجِيلُ مَرْقُسَ
هو يُوحَنَّا مَرْقُسَ، وقد كتبه بمساعدة الرَّسُولِ بُطْرُسَ،
إِنْجِيلُ لُوقَا كتبه لُوقَا، وكتبه بمساعدة الرَّسُولِ بُولُسَ، وإِنْجِيلُ يُوحَنَّا
كتبه الرَّسُولِ يُوحَنَّا. علمًا بأن أيًا من الأناجيل لم يأتِ على ذكر كاتبه. ثم
سِفْرُ أَعْمَالُ الرُّسُلِ من أعمال لُوقَا مرافق الرَّسُولِ بُولُسَ، ورسائل الرَّسُولِ
بُولُسَ الثلاث عشرة كاتبها الرَّسُولِ بُولُسَ، وبعضهم يضيف إليها الرِّسَالَةُ
إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ، وهناك رسائل أخرى بأسماء مؤلفيها (يعقوب وبُطْرُسَ ويُوحَنَّا
ويهوذا)؛ ويُوحَنَّا كاتب سفر رؤيا يُوحَنَّا اللاهوتي.
A.
النظرية
النقدية
لقد تمت كتابة أسفار الإِنْجِيلُ بعد موت وقيامة الرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ بوقت طويل؛ وبعد فترة طويلة من شروع تلاميذه ورسله الأول
بنشر «الخبر السار» (الإِنْجِيلُ) وتأسيس الكنائس
المحلية حيث مارسوا الوعظ والتعليم.
بعد وقت مرور وقت على عمل الرسل التبشيري، أخذت أخبار حياة الرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ وموته وقيامته وتعاليمه شكلاً أدبيًا دعاه الرسل «الخبر السار»،
وهي ترجمة للكلمة اليونانية «إفانجليون» التي أصبحت باللفظ العربي «الإِنْجِيلُ».
«الإِنْجِيلُ» هو أولاً رسالة الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الخلاصية، وهذه الرِّسَالَةُ
متضمَّنة في سيرة الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ وتعاليمه، فأصبحت
السيرة والتعاليم والرِّسَالَةُ واحد هو «الإِنْجِيلُ».
مرَّ تكوُّن الإِنْجِيلُ بالمراحل التالية:
1. تكوّن
التقليد الرَّسُولِي:
لم يكتب الرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ شيئًا خلال حياته، ولا واحد من تلاميذه كتب له
أو كتب عنه. وعندما شرع الرسل في نشر الإِنْجِيلُ، كانت كل الأخبار عن الرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ في ذاكرتهم. وصار الخبر «التاريخي» عن الرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ يتفاعل مع خبراتهم الروحية. وكان الرسل يشاركون بعضهم بعضًا في ما
يعرفون عن الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وفي ما يختبرونه في
خدمتهم لرسالته. ومن هذا ولد «التقليد الرَّسُولِي». ومضت السنوات العشرون الأولى
من عمر الْكَنِيسَة دون كتابة أي من أسفار الإِنْجِيلُ كما نعرفها اليوم.
وكان «الإِنْجِيلُ» يتناقل من مكان إلى
آخر بالتواتر والأخبار الشفوية. غير أن النقد الكتابي يرى بأنه ظهرت كتابات قصيرة:
قصص عن حياة الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ومعجزاته، قوانين
إيمان مختصرة، أقوال مأثورة، قبل الشروع في كتابة أي سفر. وانتشرت هذه الكتابات
القصيرة في أمكنة متعددة.
2. تكوّن
تقليد الرب:
في الحقبة المبكرة من بدايات المسيحية، كان النص المرجعي في أمور
الدين عند مسيحيي الجيل الأول يتمثل في نَامُوسِ
مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِير، أي الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ العبري، لكن بترجمته
السبعينية الرائجة على الرغم من أن اللغة المحكية كانت الآرامية، لكن اللغة
اليونانية كانت ما زالت لغة الثقافة حتى ذلك الوقت. وسرعان ما ظهر مرجعًا آخر في
وُضع في التداول في الأوساط الكنسية، وهو «تقليد الرب»، وكان يُطلق هذا الاسم على
كل من التعليم الذي كان الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ قد علمه خلال حياته
راجع «14هكَذَا
أَيْضًا أَمَرَ الرَّبُّ: أَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِالإِنْجِيلِ، مِنَ
الإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ»(رِّسَالَةُ بُولُسَ
الرَّسُولِ الأُولَى إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ9: 14)، والتعليم الذي
علمه الرسل بالسلطة المسلمة لهم بواسطة الرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ القائم من بين الأموات راجع «8فَإِنِّي وَإِنِ افْتَخَرْتُ
شَيْئًا أَكْثَرَ بِسُلْطَانِنَا الَّذِي أَعْطَانَا إِيَّاهُ الرَّبُّ
لِبُنْيَانِكُمْ لاَ لِهَدْمِكُمْ، لاَ أُخْجَلُ... 18لأَنَّهُ
لَيْسَ مَنْ مَدَحَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُزَكَّى، بَلْ مَنْ يَمْدَحُهُ الرَّبُّ»(رِّسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ الثَّانِيةُ إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ10: 8 و18). وكان لهذين
المرجعين- نَامُوسِ مُوسَى
وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِير و«تقليد الرَّبِّ»
قيمة القياس في كل ما يتعلق بأمور المعتقد والسلوك. وهذا «التقليد» لم يكن بعد
مكتوبًا، فقد تناقلته ألسنة الحفاظ شفويًا مدة طويلة. ولم يشعر المسيحيون الأولون
بضرورة تدوين كل ما علمه الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ خلال حياته وعلمه
الرسل إلا عندما صارت حياة الرسل والحفاظ على هذا التقليد مهددين بالخطر.
3. تكوُّن
رسائل الرَّسُولِ بُولُسَ:
كان الرَّسُولِ بُولُسَ أحد أهم الذين اضطلعوا على «تعاليم الرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ» خلال حياته، والتقليد الرَّسُولِي الذي نما في الْكَنِيسَة قبل
اهتدائه إلى المسيحية وتبحره في تعاليمها. إضافة إلى ذلك، كانت للرَّسُولِ بُولُسَ
قراءته «المسيحية» لنَامُوسِ مُوسَى
وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ. وصار هذا الرَّسُولِ
الملهم خزان الفكر المسيحي الذي لم يكن قد دون بعد. وصار يصب هذا التعليم في عظاته
وتعاليمه، وعليه كان يؤسس الكنائس في كل مكان.
ولما كان الرَّسُولِ بُولُسَ يعتبر نفسه مسؤولاً عن الكنائس التي
كان يؤسسها، بل تلك التي أسسها تلاميذه، كان عليه واجب العمل على تنمية هذه
الكنائس في الإيمان عن بُعد. فضلاً عن مواجهة المسيحيين الجدد في هذه الكنائس
ظروفًا طارئة لا يعرفون كيف يجب أن يتصرفوا فيها بطريقة منسجمة مع العقيدة
المسيحية، فكانوا يرسلون إلى الرَّسُولِ بُولُسَ، يسألونه في كثير من المسائل.
وكعادة كل معلمي ذلك العصر، صار الرَّسُولِ بُولُسَ يستعمل طريقة الرسائل، فكتب
الكثير منها ووجهها إلى الكنائس، وكان يطلب أن تُقرأ رسائله في عدد من الكنائس غير
تلك التي وجهت إليها. بل صارت الكنائس تتهافت على الاضطلاح على رسائل الرَّسُولِ بُولُسَ
التي كاتسبت سلطانًا رسوليًا، وأصبحت تتمتع بصفة المعيار في العقيدة والسلوك
المسيحيين. إن عدد الرسائل التي تُنسب إلى الرَّسُولِ بُولُسَ وحُفظت حتى أيامنا
في كتاب الإِنْجِيلُ هو أربعة عشر رسالة
إذا اعتبرنا أنه هو كاتب الرِّسَالَةُ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ.
4. تدوين
تقليد «الرَّبِّ» أي الإِنْجِيلُ:
عندما كانت الرسائل البُولُسَية تُقرأ وتُنتشر وتتنقل بين الكنائس،
لم يظهر شأن الأناجيل طوال هذه الفترة ظهورًا واضحًا. يجب الانتباه إلى أن الرسائل
البُولُسَية تتضمن الكثير الكثير من أقوال الرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ «الحرفية» وتعاليمه، لكنه من الصعب، بل من المستحيل الجزم في ما
إذا كان الرَّسُولِ بُولُسَ يأخذ هذه «الاقتباسات» عن كتاب مكتوب أم مما حفظ هو
منها أم ما حفظه حفاظ آخرون. كما أن مؤلفات الكتبة المسيحيين الأقدمين تضمنت
أقوالاً وتعاليم للرَّبِّ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ، لكن عندنا نفس الاستحالة.
ومهما يكن من أمر، فحوالى منتصف القرن الثاني، ظهرت شهادات مكتوبة
في كتابات المؤلفين المسيحيين القدماء بأن المسيحيين عرفوا مجموعة من النصوص الإِنْجِيلُية
المكتوبة، لكن لا نعرف كميتها وما هي الطريق التي سلكتها في انتقالها من تقليد
شفوي إلى تقليد مدون. وهنا تدخل الدراسات الكتابية لتعطي رأيًا في هذا الموضوع.
ويشير لُوقَا في بداية إِنْجِيلُه بأنه اضطلع على هذا التقليد «1إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ
قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، 2كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا
مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، 3رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ
كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي
إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، 4لِتَعْرِفَ
صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ»(إِنْجِيلُ لُوقَا1: 1-4).
تُقسم الأناجيل إلى قسمين: الأناجيل الإزائية (المتشابهة)، أي مَتَّى
ومَرْقُسَ ولُوقَا، وإِنْجِيلُ يُوحَنَّا. يجمع الدارسون على أن إِنْجِيلُ يُوحَنَّا
يختلف عن الأناجيل الإزائيل في الأسلوب، واللاهوت وبعض المضمون. ويجمع دارسو الإِنْجِيلُ بأن إِنْجِيلُ مَرْقُسَ
هو أول الأناجيل المكتوبة بين الأناجيل الإزائية، وقد كُتب بعد السنة 70 م.، كونه
يحتوى على مواد خام لم تحظَ بالصقل والتهذيب كما في الأناجيل الأخرى. أما مَتَّى ولُوقَا،
فقد اعتمدا على الرواية المَرْقُسَية وعلى تقاليد أخرى وكتبا في فترة لاحقة بعد
كتابة مَرْقُسَ بوقت قصير. يُوحَنَّا هو الوحيد الذي عاش حتى نهاية القرن الأول
تقريبًا وكتب إِنْجِيلُه قبيل موته.
ويتكلم الدارسون اليوم عن مدارس لاهوتية- المدرسة المتاوية
والمدرسة المَرْقُسَية، والمدرسة اللُوقَاوية، والمدرسة اليُوحَنَّاوية- كانت وراء
جمع وتحرير ومراجعة الأناجيل حتى وصلتنا إلى ما هي عليه اليوم. وقد تمت كل
المراجعات في النصف الأول من القرن الثاني، وفي كل الأحوال، قبل نهاية القرن
الثاني.
المواقف المختلفة من الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ
الْمَكْتُوبُ
ننطلق هنا من التسليم بأن الإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ
الذي نتكلم عنه هو «كتاب مقدس»، ومرجع لكل ما يتعلق بالإيمان والسلوك. هذا يعني
أنه كتاب معلن بالرُّوحِ
الْقُدُسِ من الله. لكن ماذا يعني بالضبط هذا التصريح الأخير: «معلن بالرُّوحِ الْقُدُسِ من الله»؟ هل كل كلمة فيه جاءت
من الله بشكل إملائي؟ أو كل كلمة كتبها الكاتب الأصلي جاءت بإلهام إلهي وبإرشاد
روحي، أي الرُّوحِ الْقُدُسِ جعل الكاتب يختار مفرداته؟ أم أن الإعلان يغطي الفكرة
والكاتب اختار مفرداته بحرية شخصية؟ إن مفهوم الإعلان الذي يختاره إنسان يعود إلى
اختيار هذا الإنسان لنظرية تكوّن الإِعْلاَنِ
الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ، فمن يأخذ بالنظرية التقليدية يكون توجهه نحو الإعلان
اللفظي، ومن يأخذ بالنظريات النقدية يأخذ منحى مفهوم الإلهام تاركًا للكاتب هامشًا
كبيرًا من الحرية في التعبير أو الاقتباس من تراثات أخرى مع أو من دون فهم جديدة.
يوجد بالإجمال ثلاث جوانب لنظرية للإِعْلاَنِ الإِلَهِيَّ الْمَكْتُوبُ:
1.
الموقف
الأصولي: هو كتاب معلن بالرُّوحِ
الْقُدُسِ من الله، ويمثل فكر الله وإرادته في جميع أجزائه، وهو
كلمة الله معنىً ومبنىً.
2.
الموقف
النقدي: هو كتاب مُلهم لكن الكُتّاب عكسوا فيه معارفهم الشخصية إن كان
لجهة اللغة أو التاريخ، أو العلم، أو الدين.
3.
الموقف
العلماني: هو كتاب من صناعة البشر المؤمنين والمستنيرين، وكل ما فيه يمثل
فكر البشر عن الله وعلاقته مع خليقته.
وإيماني أنا هو (د. القس
سامي منير اسكندر):
معلن بالرُّوحِ
الْقُدُسِ من الله مباشرة، ويمثل فكر الله وإرادته في
جميع أجزائه، وهو المعبر
عن كلمة الله الرَّبِّ
يَسُوعَ الْمَسِيحِ معنىً وجوهراً.
وإعتقدي أن هذا الإيمان
يشمل الجوانب الثلاثة معاً.
0 التعليقات:
إرسال تعليق